في المساء

تحلو حكايات النساء

بقـلم

فاطمة الزهراء فلا

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الأولى

مركز الشاهين للكمبيوترالمنصورة

- المختلط – ش فريدة حسان-

أسفل الإعدادية بنات - 0121144819

فى المساء تحلو حكايات النساء

دارت " نجيبة" في وسط الدار دوراناً في منتهى العجب أمسكت بجدل الحطب وراحت تهش البط في حركة عصبية قائلة في غيط.. عسل.. عسل.. لتحثه كي يأكل ويسمن فلقد اتهمت نفسها مرات عديدة بقلة الحيلة لأن تربيتها أصبحت خايبة.. وهايفة.. وها هو البط.. مقرمد لا يكبر.. اندفعت مرة أخرى ناحية البرانى وجدت نسوان ولادها يجلسن القرفصاء تاركات الحوض بنزح بالماء ويغرق وسط الدار وكانت الفرصة أمامها سائحة لاختلاق خناقة كبيرة تسبهن وتلعن أبوهن على سمعه وهو قاعد..يالله يابت إنت وهيه.. فزي كل واحدة تشوف وراها إيه..وجرت شفا على الزريبة كي تعلف العجول الجائعة ومن خلفها نورز تنزح الحوض الطافح بالماء أما عايدة فأمسكت بالمقشة لتكنس الدار حتى آخرها..انتهت نجيبة من نوبة الأوامر التي تنتابها بين الحين والآخر.. وهي نوبة اعتادت عليها النسوة الصغيرات متهمات إياها "بالهبل" لكنهن يتذكرن ساعات يروق فيها مزاجها ويعطيها الحاج الكبير فلوس الموسم للحمة البنات المتزوجات خارج الدار.كانت أمه نجيبة امرأة غريبة ومع ذلك كانت تمتلك شخصية قيادية ولولا هذه الشخصية ما قامت أي واحدة من النسوان لتنجز أعمال الغيظ والدار من هنا خاف الجميع بما فيهم الحاج سيد أكبر راس في الدار..وكانت "زيزي" زوجة ابنها موظف البنك أصغر أخواته وابنها المدلل والذي دوماً يستأثر بنصيب الأسد في الطعام كانت نجيبة تحبه فهو ابنها الذي قضى حياته مغترباً ليأتي لها بالشهادة الكبيرة ولم تكن تعلم أنه حمل مع الشهادة خيبة كبيرة أيضاً هي "زيزي" واحدة من البندر..ولولت نجيبة وأطلقت صرخاتها ولم توافق أبداً قائلة.. يا حبيبي يا ابني واحدة من البندر تنام للظهر ولو طلبت منها حاجة بصت لي من فوق لتحت ولا تعبرني.. لكن عادل أقسم لها أنه متفاهم مع زيزي على :كل شيء وسوف تقوم بالعمل الذي تقسمه عليها ومن اليوم الأول ونجيبه لا تطيق "لزيزي" سيرة ولا تحب كلام البندر المعوج الذي تتحدث به ولا ثيابها الملونة الضيقة والمحزقة والشيفون وأصدرت أولى الأوامر.. باقولك إيه يا اختي شغل البندر ده أنا ما بحبوش من الصبح تجيبي لك جلابية واسعة ومداس بلاستيك وشعرك إللي نازل على ظهرك من غير أدب ولاَّخشي اعمليه ضفيرتين وحطي طارحة عليه.. ولا إنت مستحلية روحك..

زيزى

أنا اسمي زيزي حاصلة على بكالوريوس تجارة بدرجة مقبول.. أكبر إخواتي البنات لكن مهدي أخي يكبرني علمني البجاحة لكثرة مشاغباته اليومية معي.. أحببت أختي سميحة وأخي العربي أكثر منه وانضممنا إلى حزب واحد أسميناه "حزب القطط" لعيوننا الخضراء وبشرتنا البيضاء الناصعة وشعورنا الصفراء.. وكلما سألنا أحد هل أنتم أجانب قلنا لا..نحن مصريون أباً عن جد.. لكن "نينه وداد" الأروبة زوجة جدي محمد الثانية قالت لي حكاية شبه أسطورة.. والحكاية تقول هناك في جزيرة بعيدة اسمها "مالطة" كانت بين البحر والسماء وأهلها طيبيون.. لكنهم لا يدينون بدين الإسلام.. كان فتى وفتاة أحب كلاً منهما الآخر وبات لا يفارقه.. عرفا الله والإسلام عن طريق رجل عربي من شبه الجزيرة العربية..وحينما عرف أهل الجزيرة بهذا الدين الجديد قرروا اعدامهما على مرأى ومسمع من كل الناس لكن الفتى والفتاة استطاعا الفرار وركبا القارب ومعهما الرجل المسلم.. وظل القارب يسير في البحر على غير هدى.. إلى أن رسى على إحدى الجزر البعيدة وتزوج الفتى من الفتاة وأنجبا أبناء كثيرون مثل أبينا آدم وأمنا حواء.. وأطلق الناس اسم الملطي على الفتى واسم الملطية على الفتاة.. وقد كان لهما جمال أخَّاذ بالعيون الملونة والبشرة البيضاء.. وظل الناس يحرفون في الاسم جيلاً بعد جيل.. إلى أن صار اسم الجزيرة "المطرية" وفي المطرية البشر لهم جمال خاص وطبيعة سمحاء وإيمان مطلق بالله والرزق.. ورثت عن جدي وجدتي هذا الشكل كمعظم أفراد عائلتي.. أعمامي وعماتي وخالاتي وخيلاني هناك في الدار الكبيرة المكونة من طابقين الطابق الأول وكان يشمل صالة واسعة وحجرة نوم للأب والأم وأخرى لثلاثة أطفال صغار أنجبتهم الأم على مرحلة سنية أخرى من عمرها بعد أن أنجبت الأبناء الكبار الذين انفصلوا وسكنوا الطابق الثاني لا ينزلون إلى الدور الأول إلا للضرورة فأنا في الطابق العلوي كنت المكلفة بالطبخ لكافة أفراد الأسرة وخدمتهم وأقوم بعمليات التنظيم وأحمي الأطفال وأرعاهم وأمي عليها شيء واحد هو الإنجاب وما يتبعه من رعاية للصغير كنت شديدة الولع بالقراءة برغم مسئولياتي كفتاة مسئولة عن أسرة كبير العدد لكن لا بأس من دخول مكتبه الوالد ذلك الأستاذ الأزهري الذي علمني كيف أصبح مثقفة برغم كل الظروف.. الرومانسية شيء تغلغل في ذاتي وطغي على قلمي وفي المرحلة الثانوية وجدتني أنثى كبيرة على أعتاب المراهقة يتقدم الخطاب لخطبتي كعادة أهل مدينتي الصغيرة التي ما أن تشب البنت علن الطوق لتعلق ملامحها أنها ستكون أنثى حتى تتم خطبتها وما أن تحصل على الابتدائية أولاً تحصل عليها فإن الزينات ترفع في نصبه كبيرة عالية جداً لمدة أسبوعين لتعلن أن فرح إحداهن على العيد الصغير بعد رمضان فهذا هو موسم الأفراح عندنا في المطرية..وما أن ينتهي رمضان حتى تتحول المدينة إلى حفل موسيقى ومهرجان للمزيكا تتبارى فيه عدة فرق شهيرة في آن الوقت في الستينيات.. يقف الهباب متوسطاً الشارع الواسع فأهم ما يميز المدينة شوارعها المتسعة المنظمة التي خططها أحد المهندسين الفرنسيين أثناء الاحتلال البريطاني على مصر في الأربعينات فتقف في الشارع لتكشف المدينة عن آخرها.. لذلك كنا نرى الهباب وهو موسيقار شديد الذكاء، والفن، والفزلكة يعزف بلا نوتة ومع ذلك ينطلق اللحن ينساب طبق الأصل من الأغنيات التي كانت تنتشر في الأفراح في هذه الفتره لتسمع مزيكه: وحياة قلبي وأفراحه لعبد الحليم أو نسمع علشان الشوك إلي في الورد لعبد الوهاب أو أغنية "مبروك عليك يا معجباني يا غالي" لشريفه فاضل ملكة الليل والأفراح والتي كانت العروس تشترط أن يكون بين الأغنيات التي تغنيها العالمة أغنية "مبروك عليك يا معجباني يا غالي – عروستك الحلوة قمر بيلالي وغالباً ما كانت تغنيها أشهر مطربة في ذلك الوقت "الحاجة بُسبس" عالمة المنصورة الشهيرة وطبق القشدة المثير التي ما أن يهتز حتى ينسال لعاب الحاضرين فيصفقون ويرقصون ويغنون معها بسبس – بسابيسو – بسابس أسرت إلى أمي حين هل المساء وقمت بغسل إخواني الصغار الواحد تلو الأخرى من تراب الشوارع الذي كان أن يخفي ملامحهم ويطمس معالم ملابسهم لنبدأ رحلة غسيل حين يأتي الصباح.. كان مزاجها معتدل وهادئة على الرغم من توترها طوال الوقت لكنها ربتت على كتفي قائلة..إنتِ كبرتِ يا زيزي ما شاء الله عليكِ وشايله هم إخوانك معايا..§ ربنا يخليكِ يا ماما.. ولا يهمك بس يا ريت ما عتيش تخلفي تاني عشان صحتك..§ إن شاء لله دي آخر مرة أوعدك وربنا يشهد عليه.. أنا حامل شهرين وإنتِ أول واحدة تعرفي..شلت المفاجأة الجديدة كياني كله كنت أريد ساعتها أن أصرخ بأعلى صوتي.. حرام.. لقد باشت أظافري من غسل المواعين والملابس لماذا كل هذا الجهل..؟!! ماذا سيضيف القادم إلينا سوى المزيد من الهم والقليل من الطعام الذي نتناوله سوف يذهب إلى الطبلية المنصوبة أمامنا في كل وجبة تثير الشفقة الأطباق المعدودة طبق العشاء الممتلئ بالأرز وأطباق الخضار التي غالباً ما نسكبها فوق الأرز ونمد ملاعقنا ونأكل وما هي إلا لحظات حتى تتخبط الملاعق محدثة جلبة شديد تنبئ بأن الطعام قد انتهى والبطون مازالت خاوية..لاحظت أمي شرودي وهمي وقالت..إنت شاطرة في المدرسة.. مش كده..؟‍‍؟طبعاً يا ماما..وناوية تكملي تعليمك وتدخلي كلية الطب..!!إن شاء الله..نفسي تحققي أملي.. فاكرة يا زيزي بعد ما أخدت الابتدائية وأصرت عمتك تفيدة أن تزوجك ابنها سليم.. وأنا وقفت للكل وقلت أبداً بنتي شاطرة في المدرسة مش هاتخرج أبداً.. وهاتبقى دكتورة.. فاكره يا زيزي..!!طبعاً فاكرة ولولا إصرارك يا ماما كنت زماني اتجوزت من بدري زي نبيلة بنت عمي والزغلولة بنت خالي والقلة بنت عمتي كلهم خرجوا من المدرسة واتجوزوا وكل واحدة معاها اثنين وثلاثة..لكن إنت هاتوعديني تبقى دكتورة.. مش كده..أوعدك يا ماما..كان هذا آخر لقاء جمعني بأمي وكانت لا تزال في بداية حملها رقم تسعة الذي كان وبالاً عليها دون أن تدري ساعتها كنت في أول يوم في الدراسة بالصف الثالث الثانوي بمدينة المطرية وأنا أعتقد ولماذا كان اعتقادي بأني طالبة ممتازة سوف تلتحق بكلية الطب التي وعدت أمها بها..حالة من التوهان تشملني دائماً.. أهوى العزلة والكتابة وأرسم قصوراً على الرمال وأرتدي أثوابَ الحلمِ المخملية لأنفصل عن عالمي الذي كنت أحياه وبرغم الدفء والحب الذي كان يشمل الأسرة إلا أنني كنت أشعر بالمرارة تغوص في حلقي وأنا أقترب من امتحانات الثانوية العامة المصيرية.زيزي.. أول بنت في العائلة تصل لهذه الدرجة من العلم – شاطرة في المدرسة وتتحدث في الإذاعة المدرسية وتذيع أخبار وتقول أشعار رغم ذلك لم أكن أشعر بالسعادة أبداً..اجتزت أيام الامتحانات الصعبة وكل يوم تنهال دموعي فوق خدي في صمت وكلما مر يوم ابتعد عني الأمل..ولدت أمي في تلك الأثناء جنيناً ميتاً.. لم تحزن ولم أحزن ولا أي فرد في الأسرة.. خرجت من الولادة بقلب كسير يتنبا بما سيحدث لي ولها في آن واحد..بعد الولادة كانت مرهقة للغاية وجهها أصفر شاحبة تأكل قليلاً اتسعت ملابسها بدأ شعرها في السقوط وعظامها تؤلمها لأقل مجهود لكنها تحاملت على نفسها انتظار الأمل لكي يتحقق بي عندما أدخل الطب وأحمل البالطو.. ترى هل يتحقق..؟؟!!ومرت الأيام بطيئة متثاقلة في انتظار النتيجة وفي صباح اليوم الذي يسبقها أصدر الوزير تعليماته للأوائل ودعوتهم لزيارة مكتبه لكي يهنئهم ولشكرهم ولشكر أولياء أمورهم وأن ولي الأمر يستحق وساماً مثله مثل الطالب تماماً فالمتفوق لابد وأن تكون خلفه رعاية من الأهل.. رعاية تفوق الوصف.. وانتظرت أمي الوزير ليعلن اسمي بينهم لكنه لم يعلنه فبكت وضحك الجميع.. يا أم محمد مش مهم الأوائل.. الرك على المجموع.دق قلبي بعنف وأنا انتظر غداً بفارع الصبر لم أنم ليلتي بتها مؤرقة تحسبا للمجهول الذي سيغير مجرى حياتي أسود أم أبيض أرضاً أو سماء..وجاء الغد المنتظر.. فماذا كان وصار..؟!!فتحت الراديو وظلت استمع إلى أرقام جلوس الناجحين تحطمت أعصابي ولم يصل بعد إلى مدرسة المطرية الثانوية بنات.. أذن الظهر وأمي تنتظر وأبي ينتظر لم يرحمنا الوقت إلى أن أطل أخي الصغير راكباً دراجة أبي حاملاً النتيجة ويا ليته ماراح وليته ما جاء الخبر بادياً على وجهه الصغير وعينية المحمرتين من البكاء وكانت النتيجة الغير متوقعة 55% ولا عزاء للطب ولا أي كلية أخرى..انسحبت في هدوء لأغلق باب غرفتي معلنة الحداد في عاصفة لم تشهدها ذاتي طوال حياتي خاصمت الطعام حاولوا إخراجي من حالتي ولكن بلا فائدة.. مرضت أمي مرضاً شديداً انتقلت على إثره إلى مستشفى المنصورة العام.. خرجت من حزن إلى حزن أكبر وأنا أرى أعز من لي في الوجود تودع الحياة بعد أن ودعت أحلامي في مستقبل مشرف وغد يبتسم.ظلت أمي طريحة الفراش تعاني أمراضاً عديدة كنت أتعذب كل يوم آلاف المرات.. في تلك الأثناء تقدمت بأوراقي إلى مكتب التنسيق في آخر مرحلة.. المرحلة الرابعة بعد أن استنفذت كافة الكليات والمعاهد العليا.. رجوتني أمي بعينيها أن أعيد العام الدراسي لكني أثرت الصمت ولتأخذني الريح كما تشاء.ها هو الليل يزحف ببطء والسماء تصفو والقمر يغني أغنية حزينة والفجر تهدأ أنفاسه ويصمت وينتظر أول شعاع من نور ليعلن رحيل أمي فقيدة الشباب والربيع والحب..كان خبراً متوقعاً وناراً متأججة لم ينطفئ لهيبها مهما مرت السنين.. تعالى الصياح واختلطت أصوات النساء بأصوات الرجال ما بين وصف لصفاتها الجميلة وحنانها الأخَّاذ وربيعها المحمل بعبق العطر والزهور رحلت في صمت ورحل معها آخر أمل في أن ينصلح حالي وأعيد العام الدراسي فها هي بطاقة الترشيخ تصل لأحمل حقائبي إلى المعهد الفني ببور فؤاد وكم تمنيت ساعتها أن أكون جاهلة وأن تعود السنوات بي للخلف فأخرج من المدرسة بعد الابتدائية وأتزوج ابن عمتي وأقطع صلتي بكل كتاب أراه، جاءت النهاية تزحف بأرجل مشلولة وعيون عمياء لتسد منافذ الحياة في وجهي معهد فني وماذا يعني..؟!! أي مدرسة تجارة أفضل منه بالتأكيد.. وماذا بعد أيتها الريح..؟!! صدمتان في آن واحد.. تلقيني داخل شباكها التي لا ترحم.. أمي والموت ومستقبلي المحطم على أعتاب الخوف.. فالأمل الذي كان يرفرف يوماً في صدري هجرني بلا عودة لأراضي بعيدة مسافات تفصلني وإياها.. وماذا بقى..؟؟!! غير أب وحيد وأطفال ثمانية وموقد غاز لابد أن يشتعل ليأكل الصغار.. الموت لا يهم فالحياة تسير مهما تحملنا منها ومهما رأينا فيها من أهوال ماذا أفعل..؟!! هل أترك الصغار لأسافر وأحصل على دبلوم المعهد أم أنسى هذا الموضوع..؟!! وأبقى بجوار الصغار أرعاهم وأرعي شئونهم دوامة كانت تجذبني داخلها جذباً..لا ترحمني هوة سحيقة القي نفسي إليها بإرادتي..

ليلة قاسية

استرجعت كل ذكرياتي دونتها في أوراق أسميتها مذكرات داكنة استودع أجمل لحظات العمر..أولى ثانويآخر سبت سبتمبر 1973.. كنت أجمل بنت في الحارة بجلبات أزرق وفيونكة بلون البطيخ الأحمر عند الصدر النافر سهم أصاب القلب في مقتل كل عيون الفتيان تنادى تنهمر دموعاً أشواقاً وحنيناً وبرغم الانكسار والهزيمة والانهيار والكرامة المجروحة في قلب الرجال تنسال كلون الزجاج الكحلي الغامق فوق النوافذ كان الخبز الأسود ولمبة الجاز المغموسة بالهباب وبيجامات إخواتي الصبيان المتسخة بالتراب وبالمداد وتنبعث منها راحة زفارة السمك المشوي والأرز الذي يتساقط منه الزيت ورائحة علب البولوبيف الفارغة الذي يختلسونها من بقايا مخلفات منزل "السحاروة" وهو جمع لكلمة سحراوي كان رجلاً غنياً يركب سيارة يوم أن كانت عربات الحنطور والكارو وهي وسيلة المواصلات الرسمية. كانت النكسة في1967 تطبق على الأنفاس وتشعرنا بالقهر والحزن والعار ونحن نرى إسرائيل تربض فوق أنفاسنا في الجانب الآخر من قناة السويس.. خالي محمد كان صياداً ماهراً في جزيرة أم خلف أما أسرته زوجته وبناته الخمس.. فكن مهجرات في مدينتنا المطرية الباسلة التي كانت مستودع الأمان لكل من شعر بالهم من مدن الكنال.. أصر خالي محمد رغم النكسة ورغم تحذيرات الحكومة بعدم الصيد في البحر لأن اليهود الأندال زرعوا بها الألغام أصر أن يصطحب شبكته وقاربه الصغير ليتحقق حلم العودة رغم الموت اصطحب رفعت ابن أخته وابن خالتي بسيمة أجمل أمرأة مهاجرة من بورسعيد ودعناه والدعوات والدموع كانت تغالب الكلام..وبعد يومين وصلنا خالي محمد في صندوق الموت وفي صندوق آخر ساق رفعت ابن خالتي العريس الذي تزوج سعدية منذ شهر.. فكيف إذن نودع القهر والأحزن ماذا نقول..؟!!يهود هوايتهم سفك الدم والأفئدة والأكباد..السبـت الثاني.. 6 أكتوبر 1973"ياليتني كنت الشنطة" كلمات غزل اعتدت عليه الجو حار، قميصي الأبيض لا يزال يزهو بزهرة أمي الزرقاء وأنا عائدة من المدرسة بعد الظهر.. وفي طريقتي مررت بالمحلات الصغيرة عم بهلول بائع الفول وعم رضا الفلاح الذي أصبح حلاقاً.. وأم السيد السمراء وأولادها محمد ومصطفى.. كلهم من بورسعيد..شيء غريب أراه اليوم فالأشياء تزدان ترتدي أزهى الثياب تبدو أكثر إشراقاً والرجال الذين كانوا بالأمس مخنثين أصبحوا اليوم رجالاً تتألق رجولتهم بمزيد من الجد والعمل..دخلت الشارع فوجدت حركة غير عادية لم أعهد بمثلها من قبل المتخاصمون يتصادقون.. أبي أمي فتحي الخولي – حمادة فلا، سعدية بطل، أم العربي مجاهد.. الجميع يبتهل فرحاً لم أسألهم دخلت المنزل خلعت ملابس أولى ثانوي كانت تعجبني إلى حد الجنون كأني صرت بطلة في أفلام حسن يوسف ومحمود ياسين كأني نجلاء فتحي أو نيللي أو شمس البارودي.ارتديت جلباب البيت المزركش بألوان الخريف لتعلوبي زغرودة عالية في الشارع وبين الزحام والمهاجرين والمذياع والصوت المنطلق على آخر سرعة: صبرنا، وعبرنا، وربك نصرنا وبالبندقية رفعنا العلم وعبرنا لقد تحقق الحلم وعبر جنودنا خط بارليف المنيع بالعزيمة والصبر.

أسماء فى ذاكرتى

أهم ما دونته في ذاكرتي وذكرياتي تلك المراحل الحاسمة في حياة كل فرد في العالم العربي بعد الهزيمة النكراء في يونيو1967 تلك الهزيمة التي كست الوجوه بالخيبة والعار شيبت الأطفال قبل أوانهم والعيون التي تسكب نيران الغضب عند تذكر الأهل والوطن العاري من الوجوه ومن البنات والبنين والأثاث وجبحبال الغسيل التي كانت تحمل طعم الحياة وضجيجها.

حوتة

صديق أخي مهدي المهاجر من بورسعيد كان وسيماً ويرتدي الجينز والبرنيطة ويصبح من أهل بورسعيد ينادي على عمه أبو العربي كان يعجبني لكني كنت أرتعد خوفاً من أخي كان اسمه محمود، ولكن الجميع كانوا ينادونه "حوته".. يشبه محمود عبد العزيز في مسلسل "الدوامة" وكانت له قصص حب كثيرة في الحارة والمدرسة كنت أراه كثيراً يقف أمام مدرسة البنات سمعت حكاية أنه بيحب نجوى صديقتي ومرة يحب وفاء..فابتعدت عن مجرد النظر إليه.. استيقظت في يوم على خبر أسعدني حوته حلقوا له راسه على الزيرو، لأنه ضبط متلبساً بفعل فاضح جنب الكباس.. والكباس هذا هو خزان المياه العالي الذي تشرب منه المدينة كلها.. ولم نعد نرى أو نلمح محمود حوته ولكننا سمعنا أنه تطوع مع الفدائين بعد استشهاد أخيه "محروس" ومرت الأيام وبعد انتصار أكتوبر زرته بصحبه أخي مهدي لنبارك زواجه من ابنه خالته رسمية وقد صار رجلاً بمعنى الكلمة لا ينقصه سوى "ذراع" كانت مساهمة بسيطة من ابن مصر لأمه الغالية ياه لقد تغير صار حديث فخر ونظراته شموخاً وذكريات الانتصار لا تنقطع ليلاً أو نهار.

حمامة

قالوا عنها.. لازالت عذراء بنت بنوت كما قالت أمي رغم مرور العام الحادي والأربعين عليها وبرغم جمالها الأخَّاذ وفمها المرسوم كما العنقود ورقة شفتيها وعيون سود..أسرت ألف حبيب بمحبتها صارت قمراً يسهر في الليل ولا يغفو إلا حين ينام العشاق كانت تسكن في قرية "القابوطي" التابعة لمدينة بورسعيد أو الابنه الصغرى تقع ما بين مياه البحر وسماء صافية ومنزل خشبي أبسط من شجر البلوط النائم بين جنبات النهر.. قالوا أيضاً.. كانت تهوى حبيباً أجمل من كل الفتيان تمنحه حبات السكر حين يناديه البحر وترسل تنهيدات الأشواق مع الأمطار حين تأتي نوات الريح العاتية وتهددها بأن تسرق منها الروح.. والروح كانت تعني لديها حبيب العمر..وحين يناديه البحر يركب قاربه ويرحل فتنام حمامة تتوسل تضع المنديل الأخضر حول الرقبة من يسأل عنها.. تنكر.. تتنكر في زي الأموات يتلبسها العفريت الأحمر حين تدوي الريح العتيقة في شتاء أمشير.. لن تخرج من الدار أبداً حمامه إلا حين تنام الريح ويعود البحر إليها ويعطيها الغالب فتعود حمامة تخرج من عزلتها وتلقى بالمنديل الأخضر للريح وبكحل الجدة والمرود تتكحل فتزهو بربيع أخضر فوق الجسد المشوق يهتز ويتبخر ويعود لشفتيها فتضحك تقطر عشقاً وحلاوة وريق سكر تتقافز فرحاً تجري لحبيب العمر وتكبش بين يديها مياه البحر فيبتل الجلباب الأصفر وتطبق الزهور فوق شفاه يابسة يتعطر فيذوب الغائب يتمم عشقاً ويتمتم بين يديها كما العصفور ذات جناح أخضر قد ذاب الشوق والعمر فوق لهيب النار يتكسر..وفي المساء خطبوا حمامة للعربي فتحدث أبوه بلسان الفشر يقول: العربي بيكسب ألف جنيه في الشهر يصطاد أسماكاً وقروشاً وحوتاً.. أقسم بالله: العربي لا يبتل لباسه حين يعوم في البحر والشبكة بين يديه تصيد بالأمر والعربي سيبني بيتاً كالقصر تسكنه "حمامة" ست الحسن..وعند الفجر تودعه "حمامة" بين يديه تنام يديها كعصورٍ يهنأ بالعش ويهذي بالحمى ما عاد في صدري صبر..وتذوب حمامة خجلاً وشوقاً ويهل الفجر ويمر صباح السفر الأمل والثاني والعاشر.. ويضيع العربي بين أمواج البحر تبكي حمامة عندما يأتي الغروب وتسأل القوارب المسافرة والآتية والرجال والملاحين هل رأيتم العربي.. ويرد الصيادون في حزن سوف يأتي إن شاء الله..مرت الأيام وحمامة تجلس لازالت عند البحر بين شفتيها ذابت حبات السكر كالمر وعند العصر كانت المرآة المكسورة المعلقة على حائط جدتها لأول مرة تزيد إحساس ما في داخلها أيقظها.. أخبرها أن العربي قادم يحمل سمكاً يكفي للمهر.. سوف تخبره بالأحزان المحمولة في الصدر طوال الشهر.وعند العصر.. سمعت أصواتاً ورجالاً تسرع في الخطو وأبو العربي يلبس جلباباً أبيض في لون الشمع.. نظرت عند باب الدار وجدت تابوتاً ووروداً بيضاء كالفل والحنة.كانت للعربي قتلة اليهود بلا ذنب راحت حمامة في الغيبوبة فهبت عليها نوه أمشير وتركت جرحاً نافذاً بالفعل.. قامت حمامة من رقدتها ونظرت من النافذة تناجي العربي الماثل لعينيها في البحر.. كانت تفتح ذراعيها وتواجه الأمواج حين تناديها ولا تخرج إلا حين ينقذها الصيادون من الغرق واعتقد أبوها في السحر.. دار ولف على المشايخ والعرافين لعله يجد لابنته دواء.. لكن بلا جدوى قد طارت أحلام حمامة تبحث عن العربي في كل بحور الدنيا غير مصدقة أنه عاد في تابوت وينام في أعماق الأرض أصبح عظماً منثوراً يأكله الدود ومن يومها صارت حمامة أنثى تكبر ينقصها العقل.

سبيلة وابنها جميل

كانت تنتابها حالة من تقترب من الغيبوبة وتنسى أنها كانت امرأة.. انثى تحمل في الأحشاء جنيناً تتقيأ أحزان الوطن المقهور وتسعى جاهدة نحو الميلاد ليكون خلاص الكون المرئي ويعزل كل مساحات العتمة حين يهل وجه وليد حالم ينظر للفراشات يداعبها ويحادثها يقبض بيديه على الهواء ويضحك فيضحك خريف الأم فتخبئه بين الرئتين والأهداب المكحولة بالشوق ليكبر رجلاً ويكيد عوازلها تتنفس حزناً يعصرها دماء تعطي الشريان حياة.. عشقت سبيله وليدها الرابع "جميل" بعد ثلاث بنات.. النسوة تتغامز وتتلامذ.. سبيله لا تنجب إلا إناثاً سوف يزول مع الأيام الاسم وتكون الذكرى أطلالاً بعد وفاة الأب..تبكي سبيله.. سوف أظل أحمل أطفالاً حتى لو فر بين يدي.. العمر.. لو ضاع العظم ولم تبق سوى أنفاسك حتى يأتي وليدي يحمل سيفاً براقاً.. يملأ كلُ الدنيا ذكوراً وتمر الأجيال فأكون الجدة للأولاد أبد الدهر.. وإن حملوني في تابوتي فالأبناء يبكون من أجلي دموعاً تغسل أحزان الدهر..و"جميل" الأمل البراق يترعرع مثل شجر الصفصاف الوارف اليوم يمر عليه بيومين.. تطول ساقاه يعرض فيه الصدر ويخط الشارب في الوجه الممتلئ شباباً فيتيه الأب وكأنه عاد شباباً ما عاد يشعر بالعار.. أنجب رجلاً تعشقه حوريات البحر عيناه تنطق بالسحر..أهملت سبيله الثلاث بنات بل وتناست خلفتهن الغبراء وزوجتهن واحدة بعد واحدة وألقت بمشاعرهن للريح حين تضرب في الزهر.. كريمة تتزوج علي ضره وجميله تتزوج رجلاً فقيراً تعمل معه في الحقول حين يهل كل فجر حتى غروب الشمس ونصرة تتزوج عبد الجبار أرمل ماتت زوجته من القهر.. استراحت سبيله رغم متاعب البنات وشظف العيش.. كل ما يعنيها.. "جميل".. وشاربه وجلبابه الأبيض ورجولته المتأججه..فاللحم الطازج والبيض والحلوى.. "لجميل".. أما العدس فيبقى حين يعود الأب مكدوداً من عمله فلا يرى بيضاً ولا لحماً..الأم تعطي بسخاء للحيلة والحيلة يذهب كل مساء للمدينة يشرب كوكاكولا ويدخن بانجو..إمعاناً في رجولته شرب ذات يوم كثيراً ودخن كثيراً حتى غاب عن الوعي حملوه قتيلاً للأم.. فارتدت سبيله ثوباً في لون الليل.. وبعد عام جمعت بناتها الثلاثة لتقسم لكل واحدة منهن أنها سوف تصلح ما أفسده جميل والدهر..

نبيلة

قالو.. تشبه جدتي "أم علي" جميلة بعيون زرقاء وضفيرة شقراء أخرجتها أمها من المدرسة كالعادة لتخدم الصغار الذين تلدهم الأم لتثبت أنها لازالت أنثى قادرة على الإنجاب والحب.. كانت نبيله فتاة شقية تبحث عن الحب والزواج حتى لا يقولون عنها بايرة فلما بلغت الخامسة عشر أحبت علاء ابن الجيران الذي يدرس في كلية الهندسة اعتقاداً منها أنها تملك المال والأصل والجمال.. بدأ فستانها يضيق من عند الصدر والأرداف تتابعها العيون بشغف الكل يريد أن يطلب الود فكان النجار والصياد والبقال فتحت زرار بلوزتها الأمامي وحلت ضفيرتها لتسترسل شعراً غزيراً فوق الصدر واقترضت حلق جارتها ووقفت في النافذه تنتظر فارس الأحلام.. ظلت تختلس النظرات وحين رآها أخوها طاهر نزع ضفيرتها ونزع حديد الشباك ووضع حائطاً من الطوب والأسمنت وزوجها للبقال في أقل من شهرين..غابت نبيلة في الزحام في غرفة وحيدة بين عائلة البقال وأنجبت كوم عيال.. أصبحت المسئولة عنهم بعد أن مات الزوج متأثراً بالفقر والنكسة وحرق الدم والأحزان المتلاحقة والشكوى اليومية من أمه وزوجته على مصاريف البيت من سيأخذها هذه أم تلك.؟ وأخيراً قرر أن يرحل تاركاً بعض جنيهات لم تكفي للجنازة ومصاريف الكفن والغسل..

أم سعود

امرأة في عقدها الرابع تلبس ملساً أسود يتدلى من أذنيها قرطاً في دائرة قطرها 10سم كجرس الإنذار كان يلمع حين تتحدث تبرق عيناها وتشع بريقاً أسود ملتهب الجمرات كانت تأتي بضع مرات في العام حين يهل العيد.. وحين يهل الربيع وفي موسم الصيادين للزواج والحجج.. ذات مره سمعتها أمي تنادي في الشارع.. ندق وونطاهر.. طارت فرحاً.. جاءت أم سعود وكنت أحسبها لن تعود هيا ناديها يا زيزي.. تدخل أم سعود مسكنها العامر بالفاكهة والكحل والبهارات وعلبة فتحتها تحوي موس حلاقة وكيس من القطن وشاش أبيض.. فوق يديها عروسة موشومة باللون الأخضر.. تخرج من كيستها.. التي وضعتها في حرص بين ثوبها تحل العقد تخرج قطعة حلوى تمنحني إياها فتذوب تحت لساني تخرج أمي تاركة أم سعود تمارس كل طقوس السحر والشعوذة لتغريني كي أتقدم وتقوم بعمل وحشي.. إباحي أستغيث.. اتركيني أيتها القاتلة الحمقى.. جزء من جسدي ينزف.. أمي تتحاشى صوتي لا تسمعني المرأة تغتال كياني والبراءة المرسومة فوق شفتي أصرخ حتى في الغيبوبة.. استيقظ تعطيني أم سعود ورقة فيها قطعة من لحم ينبض.. لازالت قطرات من دمه ينزف.. تضع السكر تغمر فيه اللحم الحي.. وتلف الورقة وتدعوا لي كي أسعد في حياتي المقبلة مع زوج أسمر..تخرج أم سعود أسترجع ذاكرتي المفقودة.. ألبس أشيائي المتناثرة من فعلتها السوداء.. اتألم.. ينحشر بين صراخي أن يتحدث بلسان الغضب الهادر من أجل قيود وستائر.. حجبتني بأغلال الأنثى المكسورة.. أتحسس ذاتي.. عيني وساقي وأذني.. آآآه.. فعلتها أم سعود.. لقد سرقت حلقي الذهب.. تفحصتني أمي.. وحين وجدت أذني بلا حلق حزنت أكثر من حزنها على الجزء الملقى بين يديها.. وتكفنه الورقة..

أم سعود

امرأة في عقدها الرابع تلبس ملساً أسود يتدلى من أذنيها قرطاً في دائرة قطرها 10سم كجرس الإنذار كان يلمع حين تتحدث تبرق عيناها وتشع بريقاً أسود ملتهب الجمرات كانت تأتي بضع مرات في العام حين يهل العيد.. وحين يهل الربيع وفي موسم الصيادين للزواج والحجج.. ذات مره سمعتها أمي تنادي في الشارع.. ندق وونطاهر.. طارت فرحاً.. جاءت أم سعود وكنت أحسبها لن تعود هيا ناديها يا زيزي.. تدخل أم سعود مسكنها العامر بالفاكهة والكحل والبهارات وعلبة فتحتها تحوي موس حلاقة وكيس من القطن وشاش أبيض.. فوق يديها عروسة موشومة باللون الأخضر.. تخرج من كيستها.. التي وضعتها في حرص بين ثوبها تحل العقد تخرج قطعة حلوى تمنحني إياها فتذوب تحت لساني تخرج أمي تاركة أم سعود تمارس كل طقوس السحر والشعوذة لتغريني كي أتقدم وتقوم بعمل وحشي.. إباحي أستغيث.. اتركيني أيتها القاتلة الحمقى.. جزء من جسدي ينزف.. أمي تتحاشى صوتي لا تسمعني المرأة تغتال كياني والبراءة المرسومة فوق شفتي أصرخ حتى في الغيبوبة.. استيقظ تعطيني أم سعود ورقة فيها قطعة من لحم ينبض.. لازالت قطرات من دمه ينزف.. تضع السكر تغمر فيه اللحم الحي.. وتلف الورقة وتدعوا لي كي أسعد في حياتي المقبلة مع زوج أسمر..تخرج أم سعود أسترجع ذاكرتي المفقودة.. ألبس أشيائي المتناثرة من فعلتها السوداء.. اتألم.. ينحشر بين صراخي أن يتحدث بلسان الغضب الهادر من أجل قيود وستائر.. حجبتني بأغلال الأنثى المكسورة.. أتحسس ذاتي.. عيني وساقي وأذني.. آآآه.. فعلتها أم سعود.. لقد سرقت حلقي الذهب.. تفحصتني أمي.. وحين وجدت أذني بلا حلق حزنت أكثر من حزنها على الجزء الملقى بين يديها.. وتكفنه الورقة..

جنية كانت تأتى فى أحلامى

في المطرية.. البحر كان ينام على الشط بحرية لا يخجل أن يتعري فمدينتنا البكري فيها يتدلل دوماً.. يقسو عليها أحياناً حين يشاغبها يضربها بالموج وحين تخاصمه يعود بشوق الحلم ويحضنها ويهديها كل هدايا الدنيا يمنحها لآلئ ومحارات وأصداف كل ميلاد يحملها إليها حين يحل العام التالي عليها فالمطرية أنثى رائعة الإحساس طيبة.. فيها كل صفات الزوجة الصالحة ترفل في الحب يعشقها كل الأبناء وكل الأجداد والجدات وحين يتمكن في القلب العشق تحولهم جنيات تخطفهم خطفاً حتى من الزوجات.. من الأبناء فالجنية امرأة أخرى للصياد.. ضره ثانية تعشق تتعذب تتحكم.. وتقاتل بل تنجب أولاد عند الزاوية القابعة على رأس البحر جنيه عشقت صياداً يحتضن الموج ويخرج بالشبكة تحمل معها عمار الكون. "فيروز" الجنية تنتظر فتاها عند الفجر وتمنحه نظرات السحر كي يبقى أسيراً لهواها لا يعشق أي أنيسة أو جنيه سواها مهما مر زمان الشوق.. في يوم خرج الصياد بالشبكة اصطاد كثيراً وأعطاه البحر فتزوج إنسية أجمل من كل بنات الدنيا..انتظرت فيروز فتاها كثيراً.. بلا جدوى فبكت فازداد البحر وحمل للصيادين الخير..قال الناس: "فيروز" الجنية لا زالت تبكي من أجل الصياد، والصياد عشق زوجته الإنسية أنجب منها أولاداً وبناتاً يتذكر أن يهديها الحلوى في الأعياد ترك الزاوية والحلم المكسور بلا ميعاد أحياناً كان يحلم بعودة فيروز تحتضنه حتى آخر قطرة في الدم..مل الإنسية فالإنسية كانت تلقيه بحجارة ثقيله من فمها فتقتله مئات المرات في اليوم. مرة بالبعد ومرة بالهجر.. ترك البر بإرادته واعتزل الإنسية بعد فوات الوقت.. عاش وحيداً في الزاوية المهجورة يستيقظ عند الفجر يتحدث بلسان الدرويش يحمل في جيبه حلوى وياميش ويعطي للأولاد الفقراء ويغني في بله واضح فيروز العشق الأبدي.. فالبحر في مدينتا عند الرجال يعني سنوات العمر يعشقون موتاً لأن مدينتنا لازالت على فطرتها بقدر اتساع البحر فخرج الأبناء يذوبون عشقاً منذ نعومة الأظافر وحتى الموت.

أم على

من جدتي تعلمت أول درس البنت مسيرها للجواز فرحت أبحث عن عريس مناسب وعشت قصة حب مع ابن الجيران والحب في مدينتنا له رائحة كرائحة الصيادية ففاحت رائحته وحين تشمه الجيران حكموا عليه بالإعدام وهو لازال طفلاً يحبو يلتقط بأصابعه حبات الحلوى وأشياء أخرى. ذهبت لجدتي أم علي بعيون محمرة وشعر منكوش وجلباب تفوح منه رائحة السمك والحب.. قرصتني من خدي وقالت كبرتي يا زيزي..اصطبري قليلاً لازلت صغيرة.. تعليمك أفضل.. انهمرت كل دموع الأيام فوق خدودي فازددت جمالاً. قالت "أم علي" لا تبكي.. كوني مثل جدتك مهما فعل الزمان لا تبكي.. جدتك عانت من جدك والحب والشوق والهجر.. حطمها الشوق بمجداف حامي جدتك كانت كالحلة تغلي وتفوز وتتأجج كاد الغليان أن يطير بغطاها مرات ومرات لكني أصبر على هجر حبيبي ولا أبوح فالبوح يعني أني لشماته أعدائي أستسلم.. يا ابنتي ما أقصد أن تأتي بسيرتك النسوة حين يهل الليل ويصعد قمر العشاق ليسمع ويتسلى بالأحباب حين تئن وتبكي شكواهم مرات.. كنت أصعد لسطح الدار أحكي للقمر حكايتي دون أن أخجل كان القمر صديقي منذ كنت صبية بضفيرة شقراء كأشعة شمس ذهبية قلبي كان لازال أخضر في خضار اللبلاب المتدلل فوق الغصن.. قالوا إني أصبحت عروساً أمي منذ ميلادي تجهز تحت سريرها النحاس حزمت سلالة وملاءة سرير ربطتها عن آخرها فيها ملابس حرير كل الألوان وأواني زجاج تبرق وأكواب مذيلة برسومات تبهج صرت عروساً أخطف أبصار الصيادين.. وحبيبي جدك محمد كان أجمل صياد فيهم تعشقه كل الجنيات لم أره إلا يوم زفافي كنت صبيه في الثانية عشرة لم أبلغ ورأيته صرت مبهورة أعشقه أكثر من كل الجنيات كان يناديني فأذوب لا أسمعه إلا حين يهزني كان رجلاً يعرف كل تفاصيل العشق. كان عجيباً وقريباً وحبيباً يغضبني فتسود كل فراشات الحلم في عيني وحين يناديني كي أصعد لفراشه. تزدان عرائس الحب وترقص وتقفز.. تتطاير تحملني إليها حملاً.. يأخذني بين يديه فأصير نوراً وناراً علمني كيف أحب.. صياد.. مهنته الصيد علمه السمك كيف يراوغ ويثابر حتى يأتيه طواعيه علم قلبي الحب وأعطاني أحلى هداياه.. أطفالاً تتشبث بذيل ثيابي وتناديني أمي أعشقهم أكثر من روحي وكثيراً ما نظرت لقمري أسأله بربك وبربي من هذا الرجل الأسطورة لا تحرمني وتمر الأيام تتبعها الأعوام وأنا ومحمد كل يوم أتعلق به علمني كيف أغار عليه وكيف بين طيات الشوق أنتظره.. أتسمَّع وقع قدميه حين يعود في الليل فأجرى ملهوفة أحتضنه وأبكي لفراقه علمني أن أرتاب حين يعطيني ظهره وينام لا يسأل عني يطلب مني أن أتركه وحده أبكي وأسأل هل تزوجته إحدى الجنيات صارت متعتها أكثر بكثير من متعتي عنده. مزقني الشوق وحطمني لهيب الغيرة وفي العام العشرين لميلاد الحب في قلبي.. قالوا: محمد تزوج "وداد" جارته في الشادر أصبح محمد تاجراً كبيراً للأسماك بأصابعه يلبس خاتم من فضة وخاتم من مرجان كان يلقي بشباك رجولته على كل امرأة تتعامل معه و"أم علي" على أذنيها تنام لكن ما تعلمه تماماً أن أنوثتها تتناقص يوماً بعد يوم أمام عينها.. وأحب وداد فتاة السادسة عشرة ربيعاً فتاة من عمر "تفيدة" ابنته سحرته وداد بات أسير العينين السوداء والشعر الحالك كظلام الليل فتنتها طاغيه جعلت قلبه يتناثر تحت قدميها ويصرخ من فعل العشق بأوصاله.. كيف يتخلص منها من طغيان جمالها الآثر والفتان.. سوف يتزوجها.. شيء مكتوب على جبينه فهو رجل يؤمن بالله وبالغيب ومن أين منك الفرار يا وداد.."أم علي" تتيقن كل النسوة تؤكد محمد سوف يأتي بضره "أم علي" يا حسرتها ماذا تفعل لو ترك وسادتها وتوسد في الليل ذارع امرأة أخرى ونام بجوار امرأة أخرى في فراش واحد وغطاء واحد وآه حين يجتمع العشاق في الليل البارد في شتاء قارص امرأة تمتلك من الفتة والحسن آلاف الأميال بالفعل تزوجها ووضع بوابات الزينة في حارتها وأعلام من كل الألوان زفتها من دار أبيها لدار محمد.. دار جهزها بعيداً عن دار "أم علي" ليروق الجو وتشتعل أحلام الفتنة بين النهدين سيصوغ كلاماً من نحل غرامها المتأهج وسينسى أيام الزوجة الأولى الحافلة بليالي العشق سينسى المصباح المشتعل بالزيت ونوم الأبناء في دفء وهدوء يسبق عاصفة الشوق.. لكن "أم علي" فوق سطوح البيت لأول مرة تشكو الزوج الخائن وتنبت في دمها فيروس من غيرة وطحلب من حقد.. بيديها تشد العقد من رقبتها.. تتناثر حباته.. لا تجمعها تتركها تتدحرج.. تتخيل أين ينام محمد ووداد والليلة الأولى لزفاف البكر.. هل ينساها محمد.. هل تنسيه وداد أشواق سنوات عشرين ذاقت فيها طعم القبلات.. التصقت فوق شفتيها رحيقاً من عطر.. تهبط درجات السلم.. تلملم دمعات منحدرة تتساقط ندماً من أجل سنوات العمل تدخل في حجرتها وتسد منافذ كل الريح القادم بقدوم الفجر تغلقها تضع ترباساً محكماً وتقرر لن يفتح باب غرفتها ثانية لمحمد مهما مر عليها الدهر وسوف تكفنها أنوثتها بثياب الطهر..

وداع

بعد الشهر الأول من ميلاد زواج الخريف بزواج الربيع الزاهي والشوق الهادر والقبلات الساخنة لوداد.. أفاق محمد بعد نوبة حب وتذكر زوجته الأولى "أم علي" هم ليأخذ حماماً بارد ليفوق تلبسه "وداد" الجلباب الأبيض تسأله بلا غيره هل تذهب إليها الليلة قال في أمر لا تسألي عن شيء لا يخصك فأنا طبعي لابد أن تعرفيه كاسمك تماماً.. قالت في لهجة خائفة.. أمرك يا سيدي الباشا.. أمرك يا سيدي البيه.. لن أسألك لماذا..؟!! أو كيف أو ليه..؟!!نظر إليها في غضب.. لهجتك اختصريها وفعل الحارات معي لا تحاوليه.. صمتت وداد وودعته حتى باب الدار وقبل أن يغادر دارها قبلت يديه.."أم علي" فوق سريرها تنام لم تعد تسهر ولم تعد تؤرقها الأشواق.. بكت كثيراً ورفعت كفيها تدعو الله أن يجعلها تنسى.. وها هي تنسى وتصلي وتعيش في صمت من أجل الأبناء.. الليل يداهمها كالعادة تشعل قنديل الزيت وتتذكر "تفيدة" ابنتها الصغرى التي تزورها كل يوم بعد أن رحل محمد الزوج والأب.. تزوجت تفيدة لكنها لازالت تعشق الأم وتأتيها كل مساء..نزعت شالها وارتدت جلباباً في لون الحلم الأخضر.. نظرت في المرآة الموضوعة في غرفتها.. نظرت للمرود رغبة عارمة تأمرها أن تتكحل لكنها خاصمت الكحل منذ أن غاب حبيبها محمد.. ترى هل سيعود.. في تلك الأثناء.. دفع محمد باب غرفتها لكن الباب من الداخل مغلق دق الباب بأصابع ترتعش بالشوق وبالعشرة.. لم تفتح ظل يدق.. قالت من خلف دموع ساخنة من خان حبيبه فعليه من داره أن يرحل.. قال محمد من خلف الباب.. لا تدعيني إني أحبك.. فالعشق يزلزل أوصالي ما اعتدت أن تعصي عليه أبداً..قالت: في قوة فرعون.. لكني من اليوم سأعصي وأثور وأمزق أثواب العشق.. لقد باتت باليه لا تصلح ظل يدق الباب.. بلا جدوى.. فانسحب وحيداً يبكي في ثورة.. قد ضاع الحب وتمردت "أم علي" بعد أن غاب محمد في أحضان امرأة أخرى..

وداد

عاد محمد يجر أذيال الندم على فقد حبيبته الأولى "أم علي" لكنه قرر أن يعيش مع "وداد" حياة جديدة يمنحها الثروة وليالي العشق المفقودة بين أحضان أم علي حين دخل الدار نادى "ودة" تجري ودة من الداخل تحتضن الزوج الملهوف وتقوده إلى غرفتها وتنادي شرفت الدار "يا سيد الكل"..وداد حامل في الشهر الخامس تتقيأ جهراً لتعلن للكون أنها امرأة مثل ضرتها "أم علي" تماماً سوف تنجب ست بنات وست بنين إثنا عشر مثل أبناء محمد من زوجته الأولى.. ويكون لها ما شاءت دسته من الأبناء تتباهى بخلفتهم كل نساء مدينتنا كن يحسدنها على الزوج والمال والأولاد – كانت ودة تملك كل حنان الكون تغدقه بلا حساب على أبناء الزوج من ضرتها كل مساء.. تجمعهم فاطمة وزينب وواطفة وتفيدة بنات "أم علي" تحمل طبلتها بين ذراعها اليسرى وتطبل فترن الدقات وتدوى بين جنبات الحي الخالي إلا من دارها ودار أم علي القابعة في شرفتها تضحك تارة وتتعجب تاره أخرى البنات تركن الأم وعشقن زوجة الأب لبساطتها ورقتها وحلو معشرها كانت كريمة تعطيهم مثل بناتها ولا تبخل طبلية تحمل أشهى أطعمة الأسماك ليأكل الجميع وتضحك "وده" تضحك تتقافز فوق رأسها أحلى فراشات الزهر.. وبرغم أن الرجل القابع في غرفتها أصبح معقد أنجب أربعة وعشرون ولداً وبنتاً وتمتع بحياة رائعة بين امرأتين الأولى عشقته عشقاً لم تقبل أن تشاركها فيه امرأة أخرى والثانية تعشقه ترجوه من الدنيا رغم أنه أصبح مقعد تخدمه تحبه وتحتضنه ولا تخجل وتطلب منه أن تحمل بجنين آخر يملأ كل الكون عليها سحراً ترضعنه حناناً وأماناً ويصفق وتغني وتلعن هذا المرض القاسي القلب المتحجر العاطفة الذي أبعد عنها الزوج الرائع أبعد عنها "محمد" ومحمد يدخل في الغيبوبة يستيقظ ثم يتألم.. يجتمع الأبناء.. البنات وأزواجهن والرجال وزوجاتهن الجميع يبكي ويدعو بالشفاء الرجل الأسطورة يحتضر أم علي تبكي تلتاع تتخلص من غيرتها ومن أدران حقدها وتصلي تسجد لله وتدعو لحبيب العمر.. أول طارق يطرق باب أنوثتها وآخر طارق غلق الأبواب المفتوحة وقبرت أشواق القلب كانت قد دارتها داخل ردهات الروح وتمنت أن توقظها لكن كرامتها المذبوحة كانت تصرخ وتئن.. تصنع على الرأس الطرحة البيضاء وترتدي فستانها ومعطفها وتفتح باب الدار وتخرج تحملها لفحات الغائب حين يناديها من فوق فراش الموت.. وحين تفتح باب الغرفة يرقص الأبناء والزوجات كأن الملكة قد هلت بالحُّراس وبالعرش.. أم علي عندنا أنه الشرف الأعظم.. يهب محمد من رقدته وبعينيه المكسورة ينظر ويعود للخلف سنوات لم يتذكرها.. يصحو يشعر أنه قد خف زالت عنه كل الأمراض المستعصية لما جاءته حبيبته الأولى تلك التي تعلم منها كيف يكون لقاء حبيب بحبيبته الأولى.. وحين التقت النظرات ابتسم محمد بهدوء وأسبل عينيه.. أم علي مدت يدها جذبت الغطاء وقبل أن تصرخ قبلته قبله طويله حبستها في الصدر سنين طويلة في وسط الدار جلست تتقبل كل الناس وتحكي كان بطلاً وعظيماً وحبيباً كان حشاشة قلبي أحببته أكثر من روحي وحين أحب وداد تركته ليعيش حياته بعيداً عن غيرة الضرتين فالحب تضحية لا يقدر عليها سوى أم علي غاب عن أحضاني لأحضان امرأة أخرى شعر معها بسعادة أكثر مني فلماذا أمانع والحب عطاء.. لا يعرف أي أناني..وبعد أسبوع واحد مرضت "أم علي" ولم يطل مرضها جمعت الأبناء.. وأوصتهم بوصاياها المعتادة بالحب والصلاة وأن المراءه لابد ان تكون مهيضة الجناح مكسورة الخاطر تخجل من الرجل وتحارب من أجل الأبناء وتسد كل منافذ يدخل منها الشيطان.. ابتسمت ثم نظرت لوداد توصيها بالأبناء وفوق فراش وداد نامت في راحة بعد أن أسلمت لبارئها الروح..

عمتى تفيدة

لازلت أتذكرها بالوجه الممتلئ الرائع والحسنة السوداء والجسم الممشوق الفارع كانت تسكن داراً واسعةً وتملك أرائك وسريراً مفروشاً بألوان زاهية ورائحة عطرة كانت أغلى بنات أم علي وأحلاهن على الإطلاق كانت تمتلك خادمة تأمرها أن تحضر كل طعام كي يأكل منه الفقراء..كانت تملك أسرار الفتنة فتزوجت أحمد الرجل الأول والأخير واستوعبت الدرس من أمها.. كيف تحافظ عليه ولا تتركه لامرأة أخرى ويهجرها وتعيش الأحزان فابتسمت للزوج عند فراقه صبحاً وعند لقائه في المساء كانت تغمره بالفرحة وبأحلى أحاديث الحب فكانت له شهرزاد..أعطاها كل العمر.. وفي غمرة تلك الفرحة أقعده شلل رعاش كانت لازالت في العام الثلاثين امرأة تغار منها الشمس حين تظهر ويخجل من طلتها البدر.. لكن الزوج الرائع أصبح مقعد لا يقوى حتى أن يقف قليلاً ليصلي كانت عيناه تنظر لتفيدة وتتمنى أن يسرقها الحلم إليه لكن بلا جدوى تظل تفيدة صامدة في وجه الأحزان تحمله بين يديها وترتاد كل طبيب من شأنه أن يسمو بلوعتها لكن هيهات أحمد مات وترك ثلاثة أبناء وامرأة لازالت في عز ربيع العمر..لم تبك تفيدة واحتضنت كل الأبناء.. قصت ضفيرتها الطويلة وتركت شاربها ينبت وارتدت جلباباً بلون الليل وندرت الجسد الرائع لتربية الأبناء..دق الباب رجل يتبعه رجالاً يخطبون ود تفيده وتفيدة تدق الصدر في دهشة رجل آخر أتعرى أمامه ذيل جلبابي أرفعه لرجل آخر والله أبداً.. ظلت تفيدة حتى وصلت للستين صارت جدة للأحفاد.. وفي عيد ميلادها الحادي والستين رحلت وخلف جنازتها يتبعها كل الأبناء.. يلطمون.. يولولون.. كانت بدراً.. قمراً خلقاً دنيا عمراً.. لم تهوى سوى رجل واحد وكان الإخلاص في العائلة وراثة وديناً نحمله جيلاً بعد جيل..

عمتى تفيدة

لازلت أتذكرها بالوجه الممتلئ الرائع والحسنة السوداء والجسم الممشوق الفارع كانت تسكن داراً واسعةً وتملك أرائك وسريراً مفروشاً بألوان زاهية ورائحة عطرة كانت أغلى بنات أم علي وأحلاهن على الإطلاق كانت تمتلك خادمة تأمرها أن تحضر كل طعام كي يأكل منه الفقراء..كانت تملك أسرار الفتنة فتزوجت أحمد الرجل الأول والأخير واستوعبت الدرس من أمها.. كيف تحافظ عليه ولا تتركه لامرأة أخرى ويهجرها وتعيش الأحزان فابتسمت للزوج عند فراقه صبحاً وعند لقائه في المساء كانت تغمره بالفرحة وبأحلى أحاديث الحب فكانت له شهرزاد..أعطاها كل العمر.. وفي غمرة تلك الفرحة أقعده شلل رعاش كانت لازالت في العام الثلاثين امرأة تغار منها الشمس حين تظهر ويخجل من طلتها البدر.. لكن الزوج الرائع أصبح مقعد لا يقوى حتى أن يقف قليلاً ليصلي كانت عيناه تنظر لتفيدة وتتمنى أن يسرقها الحلم إليه لكن بلا جدوى تظل تفيدة صامدة في وجه الأحزان تحمله بين يديها وترتاد كل طبيب من شأنه أن يسمو بلوعتها لكن هيهات أحمد مات وترك ثلاثة أبناء وامرأة لازالت في عز ربيع العمر..لم تبك تفيدة واحتضنت كل الأبناء.. قصت ضفيرتها الطويلة وتركت شاربها ينبت وارتدت جلباباً بلون الليل وندرت الجسد الرائع لتربية الأبناء..دق الباب رجل يتبعه رجالاً يخطبون ود تفيده وتفيدة تدق الصدر في دهشة رجل آخر أتعرى أمامه ذيل جلبابي أرفعه لرجل آخر والله أبداً.. ظلت تفيدة حتى وصلت للستين صارت جدة للأحفاد.. وفي عيد ميلادها الحادي والستين رحلت وخلف جنازتها يتبعها كل الأبناء.. يلطمون.. يولولون.. كانت بدراً.. قمراً خلقاً دنيا عمراً.. لم تهوى سوى رجل واحد وكان الإخلاص في العائلة وراثة وديناً نحمله جيلاً بعد جيل..

عبده (أنتوكه)

كنت لازلت صغيره حين كان يحضر عبده أنتوكه لمنزلنا فتجتمع النسوة في انتظار أصابعه السحرية لتمر على الوجوه المشعره وبفتلته المجدولة يصبحن ألمع من مرآة مصقولة لم أدر لماذا تكشف النسوة ذات اليشمك وجوهن أمامه ولا تخجل صارت تجري الأيام وحين أصبحت عروساً أصبح عبده أنتوكه "أشهر كوافير" يحمل شنطته المملوءة بأدوات المكياج.. أحمر الشفايف والباروكات يحضرها حين كان يسافر في السبعينات وتحديداً بعد الانتصار إلى مدينة بورسعيد.. تلك المنطقة الحرة وأشهر أساليب الرشوة والتهريب كنت أراه كثيراً يضع أثداء وأرداف يصنعها بقماش مهرب من المدينة الحرة ليصنع منه فساتين زفاف للأفراح.. أصر الأخ الأكبر أن يأتي عبده أنتوكه ليجملني فالليلة كتب كتابي أحضرت الفستان الأبيض لم يبق سوى المكياج تشاجرت مع الأخ كثيراً كي لا يحضر عبده أنتوكه لكنه أخبرني بأن عبده أنتوكه فتاة مثلي لكن جنس ثالث فهمت قليلاً وزال حيائي من "أنتوكة" وتركت له وجهي كي يبدع في أحلى ليالي العمر..أبدع "أنتوكه" ورسم العينين والشفتين فبان جمالاً كان متخفي تحت الحاجبين وتحت الأنف فبدوت كملكة لا ينقصها غير العرش..كان شعري طويلاً وجميلاً لكنه أصر أن يضع على رأسي باروكة رغم أني توسلت إليه لكن إصراره كان غريباً وأمام تعنته الواضح عقد الشعر المسترسل ووضع باروكه أضاعت جزء كبيراً من الشكل العام.. وأمام المرآة مبهورة بجمالي هم عبده أنتوكه ليقبلني ويبارك فنه وإبداعه لكني تراجعت فأطلق ضحكة ناعمة فحسبته أنثى حقيقي فقال.. أنا وأنت زي بعض لا تخافي لكني تشبثت برأي وناديت كل جيراني كي يخرج من غرفتي أنتوكه فوراً فالجنس المتخفي بين النوعين لا أدري ذكراً أم أنثى يجعلني أتوه.. وبعد كتب الكتاب خلعت الفستان والطرحة والباروكه وأخبرت أخي بما صار من عبده أنتوكه فقرر أن يقطع عيشه من تلك المهنه ويعود إلى مدينته بورسعيد كي يعمل فيها بائع "بالة" أو روبابيكيا فزبائن تلك الطبقة دوماً "روبيكيا" مثل من يعمل فيها..

فى القرية الصغيرة

(أفــراح)ليلة زفافي كانت ليلة متواضعة للغاية كانت غير ليلة كتب الكتاب॥ في كتب كتابي كان باب شارعنا يزدان ببوابة كبرى عليها كل أعلام الزينة والرايات الخضراء ولمبات تخطف كل الأبصار وفي منزلنا قبع الطباخ يطبخ كان أول طباخ يدخل للشارع منذ أن مات الجد الأكبر "سيدي محمد" ونينه ام على ونينه" وداد" ।قاطعنا الأفراح وتوارت في عينينا الأمنيات لكن الفرح يطل برأسه وينادي الأطفال الأيتام ماتت أمي لكنني سأتزوج ابن العمدة "عادل" بجماله وشياكته الفتاكة وكل عيون الجيران تحسد "زيزي" حلوة صحيح لكن عريس المستقبل أحلى وجاؤا بعدسة تصوير أبيض وأسود صنعوا للصورة أجمل برواز ذهبي॥ آه لو كانت أمي تعيش تلك اللحظة لكانت طارت من فرحتها فالحزن من أجلي هد صحتها وأرق منامها وحرمها من الأفراح فارتاحت من كل عذابات الكون الكامن في عيونها॥ كان الفاصل ما بين كتب كتابي وزفافي تقريباً عام॥ يوم زفافي أتذكره في عيد الفن 10/8 من عام 1978 في هذا العام أطل علينا بنظارته البللورية وكلماته التي تفتح كل الأبواب في الأمل الضائع॥ حمل إلينا انتصار أكتوبر وصار بطلاً في لحظة توحد كل الرؤساء والملوك ليكونوا رموزاً رائعة للأوطان॥ أنور السادات بكل الفطنة والحنكة والإخلاص لمصر يعلن سأزور إسرائيل العالم ما بين مصدق ومكذب ما بين حاقد وحبيب العالم أصبح بركاناً يغلي قالوا॥ خاب॥ غاب وعاد بخيبته الكبرى يحمل في جيبه ورقاً॥ أختاماً ومعاهدات صلح قد صرنا نحن وإسرائيل حبايب يا للعار॥ قالوا خائب يستحق ضرب النار॥تركت ضرب النار والمصدقين والمكذبين والحاقدين لأتفرغ ليوم عرسي الهادئ في القرية الفطرية المحمومة بصراع الفلاحين على المال والسلطة الجاه وفوق كنبة خشبية صنعوا مقعدين من الخيزران مقعد للعروسة ومقعد للعريس وشجرة من جريد موضوعة فوق ملاءة سرير في وسط الدار وبعض النسوة ملتفات بالطرح السمراء الموضوعة فوق الإيشاربات الصوفية الملونة راحت بعض النسوة تزغرد والبعض الآخر راح يغني في سخرية "وضحكنا عليكوا وخدناها" من ضحك علي من..؟!! لقد جهزني أبي جهازاً كبيراً لم ينقصني شيئاً رصت سعدية بطل زوجة عمي الأكواب في نيش السفرة وفوق الشماعات علقت زينب زوجة أبي كل الفساتين الغالية وقمصان النوم رصتها في الدولاب.. وعمتي آمنة فرشت سريري بالطقم الربس الأحمر وتدلت من أعلى البلتكانة ستارة حمراء بلون المفرش.. كانت شقتي تزدان بكل ما يجعلها جميلة شقة متسعة تتألق مثل عروسة ليلة دخلتها كل شيء غني في تلك الليلة حتى كاد خالي محمد ليصفق من فرط الفرحة المحمومة بيديه صعدت إلى شقتي بالدور العلوي.. منحوني قطعاً من السكر تحت لساني حملوا ذيل الفستان والطرحة الواصلة لما بعد الكعبين فرحت كل نساء الأسرة إلا السلفات قالوا من البندر سوف تراوغنا وتهرب من أعمال الدار سبع بنات جئن من البندر هذا العام لم تبق منهن واحدة اتكلوا من حيث جاء بهن العرسان لم تفلح واحدة في حلب بهيمة أو حش البرسيم او حتى كنس الدار ضحكت كل النسوة قالوا أنأكل حلوى المطرية والسمك البوري.. ونفرح بالقراميط حين تتلعبط في الماء لمدة عام لن تبقى.. زيزي دلوعة تستيقظ عند الظهر وتأكل لحماً وتلبس سراويلاً ضيقة سوف يكرها الصبيان فالصبيان في الدار لا يعجبهم الحال المايل وآآه لو وجدوا امرأة تتكحل أو تتجمل أو تلبس فستاناً أظهر فيها للجسم أي بيان تتنبأ كل النسوان سترحل زيزي وسوف يمزق عادل من الغيط جلبابه وسيعلن في سره يوم رآها ويوم حملها إلى قريته "فزيزي" لا تصلح إلا أن تأمر.. تريد خادمه ونحن هنا لا بد أن نعمل لكي نأكل فالمرأة في دارنا لا تبقى فراش الزوج بعد آذان الفجر وتهب واقفة حين تسمع صوت الآذان مر الأسبوع الأول لزفاف الحب وزيزي ترفل في ثياب الزهر والعطر يفوح من شقتها وتفوح رائحة الرومي والبط كل مساء يدعو عادل لوليمة في شقته مرة العم ومرة الأخ ومرة الخال.. فرح لازال يشتاق لعروسه طقوسه اليومية تزداد تصبح كيفاً حين ينادي زيزي كي تصنع شاي بعد صلاة العصر..

بعد الفرح الأول بالحب

في القرية سمعت كلاماً أزعجني.. أرعبني قالوا خلفة البنات عار ومذله وخلفة الذكور كرامة وعزوة مورث ثقافي سخيف فقير الإنسانية أو عديم الإنسانية بالمرة الشرف هنا جسد الإنسان اقتصر الشرف والفضيلة على الأعضاء التناسيلة كما كانت منبع الفضيلة والرزيلة ولأن الرجل في الموروث الثقافي الشائع هو "الدابور" طارد الإناث بالزواج والطلاق أو بدونها والإناث يستجبن له بالعقد أو الرغبة.من اليوم الأول لزواجي وأنا أخاف من المجهول والمجهول شيء لا أدريه.. لكنه كثيراً ما يصيبني بالكآبة ويعتريني إلى الضيق لأقل الأسباب كنت أشعر أحياناً أني إمتلكت العالم بأسره حين صار ابن العمدة زوجاً لي وفي أحيان أخرى تأتي هموم العالم فوق رأسي وتدفعني دفعاً للنوم.. لا أريد أن أخرج من عالمي الصغير الكتب التي حملتها من مدينتي والتي تحملني إليها بين الحين والحين الوحدة تداهمني بعد عودة زوجي إلى العمل في مدينة بعيدة يأتي منها كل مساء مهرولاً إلى فراشه كي ينام.. الخوف من الأيام يلازمني.. ماذا أفعل؟!!.. كان الليل يشاغبني فأشاغب زوجي.. يستيقظ من نومه على صوت بكائي يسألني عما يحزنني أصمت.. قال لابد من النزول إلى العائلة لقد طالت غيبتك داخل غرفتك.. النساء في الدار بدأت تتحدث عنك.. أمي نجيبه متذمرة منك تشكو رقدتك كدجاجة ترقد فوق البيض تقول ماذا تفعل لقد خبت خيبة كبيرة وتزوجت من البندر.. ابن سمارة طلق عروسته في الإسبوع الأول وابن أيوب وغريب المرسي.. سبع بنات من البندر انزحن من القرية فالقرية لا تتحمل دلع بنات البندر.. أني أتأدب تؤدبني الأيام وتعطيني امرأة تنام حتى الظهر يا حسرة قلبي شقتها مغلقة النوافذ لا تدخلها الشمس ورائحة الكسل تطل إذا بانت كي تنشر أي غسيل.. يا ولدي يا عادل يا حبيبي قلبي يتمزق من أجللك.. أنهي محاضرته الليلية جذب غطاءه جذباً.. نام وصوت شخيره يؤلمني فالأرق أصبح عادة تلازمني لأني أنام حتى آذان الظهر وآذان العصر حياتي خاوية إلا من صوت ضجيج يدوي في صدري ما فائدة حياتي.. لا زوج يصاحبني ولا صديقة تؤانسني في الدار.. أمه نجيبه ترسل في طلبي.. دقت أجراس خطر المجهول أتأزم أصبح كالحلم الخائب أو أصبح فأراً مذعوراً.. ماذا تطلب تلك الشخصية المتعجرفة القاسية النشأة قالوا عنها زعيمة من يفلت من قبضتها يولد من جديد ماذا تحمل في حقيبتها في حقيبتها طلاقي وحقيبة أحلامي تفتحها تفضحني وتلقي بملابسي الشفافة في الجرن فيراها الصبيان وتكون فضيحة إني أخاف من لقائها ومن قسوتها ومن عنف الأيام المتمثل في عينيها المتحجرتين.. قالت بلهجة من تأمر.. طالت رقدتك فوق البيض.. الحنة لازالت منقوشة على الكعبين أم جفت..؟!! وهذا الشعر المسترسل لميه ضفرية وضعيه داخل إيشارب وهذا الفستان أرميه لإخواتك في البندر وصباح الغد تكوني هنا أمامي كي تختاري عملاً فالنسوان في الدار تعمل مثل الصبيان هيا اختاري عملاً فالنسوان في الدار تعمل مثل الصبيان هيا اختاري عملاً والتزمي به وأمامي اصحي.. لا تعجبني الكحل في العين وإن يبلغني عنك أن عادل ولدي يحبك أكثر من عمله سوف أربيك وأربيه أسمعتيني..؟!! أم يتكرر نفس كلامي..؟!!خرجت كلماتي بصعوبة تسأل.. ماذا أفعل..؟!! قسمي لي عملاً وأنا بلا تردد أقوم به فأنا من يومي أعرف كيف أربي الأطفال وأقوم بغسل أواني الطهي بل أطهو وأغسل ضحكت أمه نجيبه ضحكه ساخرة وقالت: لا.. تلك الأعمال تفعلها طفلة صغيرة بلهاء..حله.. حلتين.. وكوب من ارز لسبعة أفرادأرز لسبعة أفراد غير سبعين.. عندك أربع أشياء اختاري واحدة منها..نظرت إليها في هلع وقد بت وشيكة أن أقع على أعتاب فراق أبدي.. استرسلت المرأة تتحدث بلسان الحاكم.. فيه نسوان بتروح الغيط تقلع.. تزرع.. تحش برسيم.. تنقي مرعى..لم أفهم منها شيئاً كأنها امرأة من عالم آخر.. نظرت ترقبني بعيون المرأة الداهية وقد شعرت أنها تقترب من الهدف المنشود وزادت في غلظتها وقالت:..وفيه نسوان تبقى في الدار كي تغسل كل المواعين المتسخة بطبيخ الأمس وتصنع شاياً للصبيان وتملأ قللاً فارغة تغسلها تماماً بالسرس وأحياناً بالسلك.. وتقلي فلفل وباذنجان للأنفار وتكنس وترش وسط الدار.. كل آذان أو تنزح هذا الحوض المليان المدفون على رأسه طلمبة ماء..وفتحت فمي في دهشة وقبل أن أتكلم قالت.. وفيه نسوان بتعلف البهائم وتسقيهم وتترب الزريبة وتشعرهم بالراحة فيدرون حليباً طازجاً وآآه لو نقص حليب اليوم عن الأمس وقعتها سودا بإذن الله.. وسترحم من منابها في اللحم ليلة الجمعة وسأجعل زوجها يعصي عليها.. فلا تبتل لها ضفيرة وتشمت فيها النسوان وتعايرها وتضحك… يا أم الزوج الغضبان..هيا اختاري مالك ملكومة كمن أكلت سد الحنك.. ردي.. ماذا اخترتي ويا النسوان السارحين ولا النسوان الموجودة في الدار..كان لابد أن أختار لكني بثقتي المعهودة ولباقتي قلت لها غداً.. اصبري عليه حتى يأتي عادل فأختار معه عملاً يرضيكي.. كانت أمه نجيبه تعشق عادل عشقاً.. قالت في صبر وتحد نصبر للغد.. هيا رصي صينية أكل وخديها فوق وفوقي والغد سنضع حدودا ًللخيبة المحدوفة علينا من البندر.. على فكرة أي كلام أقولهولك لا يسًمعه عادل كي لا يحدث في الدار حريق.. وأنا أهوى الحرائق بل وأزيدها اشتعالاً فأنا ولله الحمد لا أخشى على نفسي بل أخشى عليكن أنتن النسوان من لا تعجبها حياة الريف فلتذهب من حيث أتت وتتركنا نزرع نحتضن الزرع فيكبر ونحب بهائمنا فتعطينا الخير.. بلا فقر وعنطظة واختتمت وصلتها المعهودة في الهم..

اختيار

ماذا أختار..؟!! بكيت حتى احمرت عيناي.. دار عادل في الشقة.. فعلاً لابد أن تختاري حتى لا يندلع في البيت حريقاً.. فالنسوان بدأت تتهجم علي أمه نجيبه ويشمتن في خيبة ولدها المتعلم الذي أضاعت عليه كل سنوات العمر تربية وتدلله وتدعه يختار بقلبه بدعة جديدة لم نسمع عنها أبداً في حكاية يقول: زيزي يا أمي اختارها قلبي.. فليذهب قلبك لجحيم أبدي..قال.. اختاري الدار.. غسل المواعين أمر سهل أسهل من مرواح الغيط والشمس وحرراة يوليو ستصيرين عبداً أسود..أصرخ حتى تصفر أذناي لو أعرف أني سأتزوج فيالريف لأصير خادمة لأمه نجيبه لوضعت قلبي في البحر وقيدته بسلاسل من نار.. ماذا أختار.. أختار حلة واسعة وسع الطشت مليانه هباب أغسلها مرة بالسلك ومرة بالقش ومرة أخيره أجعلها تلمع.. أفعل مثلما كان يفعل مبيض النحاس الذي كانت تعطيه نينه وداد وتيته وداد حلتها كي يجليها ويزيل عنها الجنزراة حتى لا يتسمم من في الدار.. حلة أرز وأخرى لطبيخ يلتصق بالجدران ثلاثة أيام.. مواعين إلا المواعين..قال اختاري الطبخ.. الطبخ يا لها من مصيبة تجعلني أكاد أخرج عن وعي.. كيف أطبخ في كل مرة أخرط للطبخة الوحدة 10كيلو بصل وأخرى بيدي 10كيلوا طماطم وأمام الكانون أصهلل بيدي أدور بالملعقة الكبرى وألقم للنار قرص الجلة المفروط من آن لآخر كي لا ينطفئ الكانون.. وأقوم بتقشير بطاطس تكفي لإطعام الجيران في شارعنا.. إلا الطبخ..تداولنا كثيراً واحترنا أكثر وحتى آذان الفجر استعرضنا كل الأعمال وأخيراً قرر بعد مداولات واتهامات كادت أن توصلنا لطريق مسدود..سوف يحايل عادل أمه نجيبه كي ترضى أن تسند لي أعمالاً خفيفة ترضيني وترضيها.. سوف أقوم بعمل الشاي.. أمر سهل وهواية وثواب حين يمتلئ البكرج (البراد) بالشاي وأصب الأكواب وأدور كي أسقي الصبيان وأصحاب الصبيان والفتيان والنسوان والعائد من الغيط حين يصرخ وينادي أين يا بت الشاي..؟!! دماغي خرمان.. وعلى مضض توافق أمه نجيبة على عملي التعبان أهه تتعلم خلينا خلف الكداب تعاتبها النسوان زوجه ابنك خايبه لا تصلح إللا للبس وللبهرجة وقميص النوم العريان.. تصمت.. تتلعثم من تحت الضرس.. تقول أمري لله نتحمل ونشوف آخرتها.. والله آخرتها معروفة والصبر دليل الحيران.. في وسط الدار أغسل براض الشاي بسرس أحمر أجعله يبرق وصنيه بلون الفضة وأكواب كالبللور.. تصرخ لا يعجبها غسيلي.. تمسك بين يديها الكوب تتشمم.. لا تعجبني الرائحة وسوف يشتمنا الصبيان فالصبيان في الدار لا يطيقون للشاي أي رائحة منبعثة من الأكواب موقد الجاز شطب من الجاز قومي يا بت امليه بالجاز وهاتي شرايط أخرى حتى لا يتكون على البراص هباب كوني فنانة.. الأنفار يطلبون الشاي.. الشاي يغلي.. السكر يكفي اليوم بالكاد.. القلة المملؤة بالماء مرمية وسط الدار.. وحمار يرفسها برجليه فيكسرها تصرخ أمه نجيبه إلهي تنكسري يا زيزي.. شهادة الندامة.. ماذا نفعل بشهادة ملطوعة فوق الجدران.. ابني بصراحة يا ناس غلبان.. النسوان بتقول.. زيزي لا تصلح والصبيان بيقولوا العيش نازل من شقتها متعفن.. هيه على الدار بخسارة.. شوفوا لها مصيبة تخفى من الدار.. لم أعد أحتمل الشكوى.. الآهه تئن ما بين دموعي.. لابد من العودة لمدينة أحلامي مهما صار ومهما كان ألبس ثوباً باهتاً وأرتاد السيارة النصف نقل المخصصة لنقل البهائم.. أركب في الصندوق الخلفي جنباً إلى جنب مع بهيمة لباني صغيرة مربوطة بحبل في صندوق السيارة بقوة أستند إلى إحدى جوانبه ترفصني العجلة اللباني وتضحك مني قد صرت بجانبها كأن الإنسان في قريتنا بلا قيمة بل قيمة البهيمة تفوق ثمنه بكثير في القرية حين تموت بهيمة تصرخ سيدة الدار.. وتولول.. وتقول يا ليتني كنت بدلاً منها.فهي عشاء الأولاد وفطور الأولاد.. هي بسمة زوجي حين يعود واضعاً يده على رقبتها في حنان وآآه لو يفلت منه الحبل حين تغضب منه ينفرط العالم عقداً لا يهدأ إلا حين تعود لأحضانه فعشق الفلاح لبهائمه وعشقه للأرض..

اجتماع تحديد المصير

السيارة تصل لمدينتنا.. يااااه وحشتني حتى الموت رائحة السمك المقلي والأصداف تحملني إليها حملاً.. إني جائعة.. أريد أن أقفز من السيارة أرتمي هناك عند الرسوة وأرتاد اللنش أغرق في بحر الأوهام والأحزان وزواج خاب وحبيباً غاب بلا موعد.. وحين نزلت من السيارة اقتادتني قدماي بضعف مخمول حتى باب المنزل وحين رآني الأخوة والأخوات فقزوا فرحاً قد كانوا يعتقدون أني سافرت بلا عودة والخوض في سيرتي شيئاً مات وهل يجدي بكاء الأحياء على الأموات..؟!! لم يرحب أبي أبداً بقدومي وقال بقسوة أنت اخترتي طريقاً أشرت عليك ألا تمشيه.. والآن تعودين وتبكي غلطتك إنت حين قررتي الغربة لبلاد لا نعرف فيها أحداً ماذا أقول للناس..؟؟ خابت زيزي.. عادت بلا رجل.. والناس في مدينتنا لا يرجمون امرأة بلا رجل سوف يقولون ويعيدون وإن تزوجت بعد حين سيكون رجلاً أرمل ماتت زوجته ويبحث عن خادمة بالأجرة فيأخذ زوجة تعسة تصير زوجة أب يكرهها الأطفال..ظل يقول وأنا عن وعي أغيب.. ماذا أفعل..؟!! قال عودي فأنت تركت شقتك بلا استئذان لن يحضر زوجك كي يرضيك فأنت تركت الكل برغبتك فعودي من حيث أتيت.. اللآن..!! فلتتركني اليوم يا أبت فالنهار قد انتصف وقلبي مرهق.. متعبة لازلت من الأحزان.. قال قراري هو العودة.. عيشي بقية عمرك لا تأتي ثانية تشكي فالشكوى فشل والفشل طريق الشيطان.. هيا انصرفي عودي.. تعلمي وتأقلمي وتطبعي وألقي أثواب المدنية فأنت ولدت حين دخلت إلى زوجك بإرادتك لن تحميك الأيام..عودي طائعة وأحبي الكل وكوني خادمة لحماتك وحين ترضى عليك حماتك ستصبح كل الأشياء جميلة بسيطة سوف تزول أحزانك حين يأتي أول مولود.. الصبر جميل وأرضي دوماً بالمكتوب فالرضا بالمقسوم عبادة لا تعتقدي أن الزواج حين تنفض مراسمه سوف تعودين فراشة تحلق لا.. ستعودين أنت مغلقة مكسورة تخجل من ذكر هويتها.. هيا عودي أعطيها يا "زينب" سلة فيها طعام.. أشهى الطعام كي تأكل أمه نجيبه في الأول ثم تأكل هي وتنام وكأن شيئاً ما كان..وفي السيارة حين العودة جففت دموعي وقررت الثورة في وجه العنف وأوامر أمه نجيبه.. سوف أجعلها تقسم لي بالتساوي عملاً يجعلني أفخر أني امرأة فوق الكل.. امرأة تعمل ما يوكل إليها من أعمال سأضيف إبداعي في الطهي وفوق أعمالي في الدار سأكون امرأة متعلمة تعلم من يفتقد التعليم ويشكو من الجهل وبنور العلم سأسمو فوق الألم المكنون داخل أعصابي.. لن أبكي أبداً في تلك السيارة الآن ولدت سأخلع أثواب غروري إني أجمل أنثى في القرية وسأبقى زوجة قدوة ومثال سوف يقولون عني امرأة غلبت شجرة الدر بحكمتها وبفطنتها وفراستها سأسطر قصة عمري أوراقاً تزهو بربيع الزهر.. ومن بين حقول البرسيم والفول الأخضر والأرز سأضع الحبات الست داخل تميمة أعلقها بحجابي تحت الوسادة حين أنام سوف أحل رموز السحر وسأستيقظ عند الفجر وأدق بيدي طلمبة الماء بقوة فتسمعها كل سلفاتي فيمتن من الكيد ومن القهر.. فأنا امرأة ليست كما قالوا عنها خيبة محدوفة من البندر وسأجعل أمه نجيبه بيوم ميلادي ومجيئ للقرية تفخر لن أتوارى بعد اليوم أبداً.. لن أقهر..

خطة جديدة وأسلوب مختلف

من الطريق الزراعي للدار وضعت السلطة على رأسي محملة بالسمك البوري والحلوى الدمياطي وصابون معطر أحضره أبي من بورسعيد.. دخلت عليها مباشرة في وسط الدار.. كادت تهب من جلستها كي تضربني لأني تركت الدار بلا إذن منها.. وها هو النهار اقترب من الغروب وقبل أن تنهض وضعت السلة بين يديها توسلت إليها أن تسامحني فأنا ما ذهبت إلى بلدتنا إلا كي أحضر لها السمك البوري الذي تعشقه عشقاً وأردت أن أصنع لها مفاجأة.. أمسكت السلة قلبت الأكياس فتحتها.. اشتمت رائحة البوري.. اجتمعت النسوة ليصيب كل واحدة سمكة لكن هيهات انفرجت أسارير أمه نجيبة ودعت لي بالخير وقالت في حنان اسطوري يشبه حنان الملكة حين تهب شعبها منحة أو هدية قومي جهزي لعادل صنية تحت سريري نصف فرخة ولحوقي معمر وطبقاً من سلاطة وعيش رحالي وحادق على كيفك يالله همي قبل أن يأتي الزوج المتعب..وكأن دعوات أبي قبلت والمارد الهائج يستسلم.. بأمر الله والقرآن يقبع ساكناً يهدأ.. لا أكاد أصدق يا ربي.. ماذا أفعل خابت ظنون وتوقعات النسوان كي ينتظرن اليوم طلاقي لو طال غيابي أكثر من يوم قرار أصدرته أمه نجيبه اليوم سيتم طلاقها حين يأتي الزوج الغائب والخائب.. فالمرأة بهذا الشكل لا تنفع..في وسط الدار أسير ببطء وأمان وعلى رأسي حملت الصينية لزوجي لأول مرة أشعر أني أمتلك جزءاً من تلك الدار من اليوم أصبح من حقي أن أرفع غطيان الحلل الكبرى وأغرف وآكل بين النسوان ومن نفس ملاعقهم سآكل وعلى طبليتهم المنصوبة سأجلس ومن القلل المملوءة بمياه الطلمبات المالحة سوف أشرب.. وحين أتحسس شفتاي بلساني سأشعر أنهما بطعم الملح والعلقم.. وبطعم حياتي حين أفتقد الأهل والأصحاب والأصدقاء اليوم أبي يعلن موتي في بلدتنا ويعلن ميلادي في قرية زوجي لن أتحسر بعد اليوم على ثيابي الزاهية بألوان العشق وأظافري التي طالت منذ شهرين سوف تتقصف حين أقشر البطاطس ويختفي بياض يدي من تقشير الباذنجان والثوم وكميات البصل الذي أحضرها كل مساء من فوق سطوح الدار وسأجهز دلواً كي أنزح به الحوض الدافق بالماء ومداسي الجلد سأضعه في كيس وأحتفظ به حين تهل الأعياد أو شاءت أقداري وذهبت لطبيب حين أصبح حامل فأبي يقول سوف تحل كل مشاكلك حين يهل أول مولود سأعيش حياتي وآكل خبزاً ناشفاً ودقة مطحونة في الفرن وسأجلس في البراني أتسامر ويسامرني أطفال الدار أحمل كل الأطفال الرضع وأغسل وجوههم حين يبكون ويختلط تراب الأرض بالحلوى ويأكلون..سأعشق كل ذرة في الأرض الطيبة.. لن أنسى من اليوم أني بنت من نبت الأرض يرويني النيل الأسمر وأخاف على التقاليد وأنفذها بالحرف وأشتاق مع زوجي للحظة حب..عاد زوجي.. يرآني فلاحة أخرى يعشقها غير تلك البنت المتفرنجة بملابس ضيقة وماكياج يزعق بجمال فتان كانت ابتسامتي أجمل لون في كل الألوان أحمر الشفايف، نظرتي الحانية الراضية كحل رباني زاهي وأسناني كانت لامعة تبرق بالحب وبالشوق كاد حبيبي أن يذهل أن يرتاد سفائن حبي الهائجة بشراع السحر.. لم يعلم ماذا دهاني ومن غيرني ومن أعطاني همسات السحر.. لم يسألني عن أحداث اليوم لكن كل ما حيره شكلي وطريقة لبسي وكلامي. فلاحة كان يعشها في أحلام صباه الأولى وسادة ينام عليها حين تداهمه هموم الأيام فيرتاح ولأول مرة أتعلم شيئاً يسعد الأزواج في قريتي أقف وزوجي يتناول الطعام أضع براض الشاي فوق النار أجهز كوباً من الزجاج البنور النظيف يشرب زوجي ويضحك ينعدل مزاجه فالرجال في القرية لا ينعدل مزاجهم إلا بالشاي وصوت الشيشة يكرر فيكرر صوته بالضحكات وهمسات الحب المكنونة في صدر لا يعرف إلا امرأة تسكن عند غروب الشمس حين تحلب بقرتها وتغسل كل مواعيد الدار والمتبقي من الماء الساخن تغسل فيه قدميها المتعبتين بالحجر المصنوع خصيصاً لخشونة هذين الكعبين فتبر وبعد الاستحمام في الماء كحورية قادمة من أعماق البحر ترتدي ثوبها اللامع وغطاء رأسها المزركش والكحل الأسود الناعم في العينين.. حلاوة رباني هكذا أطلقن النسوة عليّ حين وضعت الكحل لأول مرة في عيني.. وضفرت شعري ضفيرتين تتأرجحان على ظهري في كبرياء..

ورضيت بالهم ... والهم مش راضى

برغم أني تحولت بقدرة قادر إلى فلاحة نشطة تستيقظ عند الفجر وتجلس إلى الفرن وتجر العيش الساخن وتغسل مواعين الدار المغموسة بالهباب الأسود إلا أن الزمن لا يريد أن ينعدل معي.. ابتسمت للحياة التي أضحت بطعم الصبار لعلها تضحك لي هي الأخرى لكن بلا جدوى فإنها دائماً تدير لي ظهرها.. أحببت الجميع لكي أعيش وأكون أسرة وأنسى الماضي لكن ها هو الوجه التعس يكشر عن أنيابه فلا بادرة للأمل في أن أحمل طفلاً تأنس به وحشتي في القرية رغم مرور عام كامل من الزواج والوحدة.. بكيت كثيراً وجف حلقي من طعم المرار ومع الأيام فقدت حماسي للعمل داخل الدار ولم أثبت كفاءة تذكر وتحولت معاملة أمه نجيبة مرة أخرى من الطيبة إلى الشراسة ومن الأبيض إلى الأسود ومن البشاشة إلى التكشير لم أسأل هذه المرة عن سبب التعاسة فالسبب معروف وهو أني لم أنجب لها طفلاً فراحت تلوح من جديد بأن الخيبة التي أتى بها ابنها لابد أن تنزاح.. قرأت عينها وتحملت قسوتها وتذكرت حنان أمي فساءت حالتي النفسية والصحية ومرة أخرى قررت الاعتصام داخل شقتي في الدور العلوي ولن أنزل للدار الكبيرة مرة أخرى حتى لو يبست أعضائي من الجوع.. زوجي لازال يعمل لا يشعر بما أعانيه لا يسألني عن أحوال العائلة ولا أحوال أمه نجيبه كان يأتي بطعام المدينة فاحتفظ به داخل مطبخي لليوم التالي لكي لا أشعر بالجوع.دارت بي الأيام دورتها في هم وضيق وكبت وحلم خائب وأمل يضيع من أجل طفل ويمر عام آخر.. وأعلن الانفصال عن أرض الأحلام أقصد أرض الدار.. إنها الأمل لكل فتاة تريد الاستقرار والاطمئنان حين يطل عليها طفل يبكي ويرن صوته في فضاء الدار يتشبث بذيل جلباب أمه نجيبه ليعلن عن استمرار زواج أمه من أبيه من حقها الآن أن تشتمه وتضربه وتدعي عليه وأمه نجيبه تدعي عليها هي لوحدها أما هذا الصغير فهو امتداد لأبيه يحمي أرضه حين يموت الجد ويصبح الأب قعيد الدار..من حق أمه نجيبه أن تنتظر المرأة حين تلد على نار وتسأل في لهفة عن نوع المولود فإن كان ذكراً حملته عارياً في جلبابها وكأنها وجدت كنزاً يطفح بالذهب والفضة وجرت إلى العمدة الكبير ليفرح مثلها ويمنحها الحلاوة والحلاوة عادةً ما تكون عشرة جنيهات تشتري بها ملبس وشيكولاته وفاندام طبعاً غير الفراخ الشمرت البلدي التي تذبح لنفاس الوالدة.. أما لو سألت وأخبروها أن المولود أنثى أشاحت بيديها في هم تاركة المكان قائلة في عصبية تروح لأمها تنفسها فتصاب الوالدة بالاكتئاب وكإنها عملت عملة لا ذنب لها فيها ولا ناقة ولا جمل فالأمر أمر الله والاستسلام للأمر الواقع إيمان فما بالك بالمرأة التي تزوجت في الدار وتبقى عاقراً لا تنجب إن مثل هذه المرأة موتها أحسن أو رحيلها فهي مثل الشجرة التي لا تطرح اجتثاثها من الأرض هو الحل الوحيد للغيظ الذي يملأ صدور أصحاب المصالح في الدار.وانتشرت أخباري بين نساء القرية "زيزي" لا تنجب.. لا حول ولا قوة إلا بالله الحلو ميكملش وماذا أفعل..؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‌‍‍‍‍؟ وما هو الحل وكيف أحتفظ بحياتي بهذا الجو المفعم بالعاطفة والإنجاب والترقب والخوف والرعب من انتظار المجهول.. كتبي ومصباحي وأوراقي وقلمي وطهر ذاتي وإيماني المطلق بالقسمة والمقدر والمكتوب.. وبين دموعي التي تهب في عاصفة بين الحين والآخر أسجل اعترافي بأني في القرية افتقدت الأنس والمسامرة والأصدقاء وقد كان أملي في إنجاب طفل هو الخروج مرة أخرى إلى ذاتي المغلقة باليأس كنت في كثير من الأحيان استرق النظر إلى الفضاء الواسع والممتد إلى ما لا نهاية وهذه المساحات الكبيرة من اللون الأخضر كانت تسرق روحي إليها بلا شعور مني وأظل أستعيد قصص من سبقوني زينب هيكل ومرام يوسف إدريس ونداهة نجيب محفوظ.. شيء عجيب أن أصبح قصة في سجل هؤلاء إن ارتباط الريف في كتابات الأدباء يفجر لديهم طاقات كامنة كانت مختبئة بين طيات النفس وكان الحل الوحيد أن أجعل لي قصة أنا الأخرى تشغلني وأدخل بين طياتها.. من حين لآخر وأنسى الدار وعاداتها وتقاليدها وأغانيها المملة التي تتغنى بها النسوة بمناسبة وبدون مناسبة "لما قالوا دا ولد.. انشد ظهري وانسند………"" لما قالوا دا ولد…. علوا سقف الدار عليه وجابو لي البيض وعايم جوه جاتوه ومهلبية.. ولما قالوا دي بنيه….. هدوا سقف الدار عليه وجابوا لي البيض وعايم وبدال السمن ميه……" لقد تعمدت النسوة في الدار أن تشعرني بالنقص في كل لحظة تمر وبرغم أني اختفيت عن كل العيون إلا إن المشاحنات بدأت تأخذ طابع الحدة ويقرر الرجال قبل النساء الانفصال الكبير وهذا يعني القسمة بمعنى أن يعزلوا زوجي بعيداً عن أرضه وكيانه ويصدر فرماناً بمنعي من النزول إلى الجنة المدعوة وتحدد إقامتي داخل شقتي فلا نزول ولا طلوع وكانت الصدمة الحقيقية والأولى في حياة زوجي فالقسمة معناها الغربة والتشرد النفسي بالنسبة للرجل في القرية الصغيرة.. عداوة شديدة تصاب بها كل أفراد العائلة تجاه الشخص المقسوم وكأنه أصبح فرداً غريباً لا يأكل معهم ولا يتحدث إليهم في مشاكله ولا يتحدثون معه في أي حديث كان الأمر بالنسبة لي لا يعني جديداً فأنا أجد متعة كبيرة في الوحدة.. فالوحدة تشعرني بأني أمتلك العالم سوف أنتهي من مشاكل عديدة أولها عدم التقيد أو الالتزام بأي طقس من طقوس الأسرة وعلى فوري خلعت ملابس الفلاحة مرة أخرى وارتديت ملابسي العصرية ووضعت عطوري وأدوات زينتي الملونة كان عليّ أن أعيش حياتي واعتبر قصصي التي أكتبها فوق الورق جزءاً من هذه الحياة ولتكن أولادي الذين لم أنجبهم لقد ارتضيت بكل شيء في سبيل الاستقرار لقد أوصاني أبي ونفذت وصيته.. أوصاني ألا أتمرد على الحياة فالتمرد يعني التشرد لم أسع لحياة منفصلة بل المجتمع أجبرني على هذه الحياة وعلى رأي جدتي رضيت بالهم والهم مش راضي.. قلبت كرة الحياة وبرغم أن معظمها مظلم إلا أني وجدت بها بصيص من أمل..ليست كل الحياة هم وغم ويأس وضحكت وأنا أقرأ حياة أبو العلاء المعري وهم يطلقون عليه رهين المحبسين لأنه كان أعمى ولا يخرج من الدار.. ضحكت أكثر وأنا أرى نفسي رهينة كل المجالس فأنا رهينة العادات والتقاليد ورهينة الغربة و الوحدة واليتم.. العالم كله يضيق في عيني لكن البصيص الذي وجدته جعلني أتسامى عن كل جراحي وأسأل نفسي…ألست متعلمة..؟؟‌‍‌‍‍‍‍‌‍ نعم..ألست ذكية…؟؟ نعم..ألست أدبية أمتلك أدواتي…؟؟ نعم..لماذا لا أخرج للعمل.. سؤال تطرق إلى ذهني خاصة وأن أحد شروط زواجي كان عدم التطرق لمجرد الحديد عن العمل فالمرأة خلقت للدار.. تعمل فيها لا تخرج .وهل أنا رفضت العمل في الدار لا.. لقد حاولت قدر الإمكان ولم تفلح التجربة وأصبحت تجربة فشل واضحة تتندر بها النسوة في شماتة.. لابد من العمل مهما كانت التقاليد ومهما كان من أمرها ماذا يقولون.. خرجت زيزي كي تعمل وماله ودي فيها إيه..؟؟إن الحرب تصنع العظماء والشاطر من يخرج من حرب الحياة منتصراً.. من الغد سوف أقدم أوراقي كي أعمل وسوف ألقى كل المشاكل خلف ظهري…

أكون أو لا أكون

بين نسمات الخريف التي تهب على قلبي الأخضر من الحقول الرابضة حولي من كل مكان تذكرت المرأة الجزيرة أدبية فرنسا "مرجريت يورستار" تلك المرأة التي أطلق عليها الرئيس الفرنسي جاك شيراك المرأة الجزيرة التي تعشق الهدوء والسكنية بعيداً وحدها بلا إزعاج من الآخرين.. عشقت الطبيعة وعشقت حياتها.. مشاعر متباينة من الفرح والشجن والألم والأمل وأشياء أخرى تشكل نفسي بيد من عزيمة وأخرى من نار.. ألملم أوراقي كي أتقدم بها إلى القوى العاملة في أي مكان ولن أهتم بما يقوله الآخرون من حولي لا يعلم أحد ما اعتزمت عليه.. ماذا أفعل إذا قدر لي الفشل في حياتي الزوجية وإذا قدر لي الفشل في أن أكون أماً.. لابد أن هناك شيئاً سوف أنجح فيه مهما طالت مساحة البقعة السوداء التي تظلل حياتي..مرت الأيام وأنا أحيا في عزلة رهيبة وكأني أرتدي جلباباً بلا أكمام وبلا ياقة وبلا جيوب.. أتناول طعاماً بلا ملحٍ وبلا بهارات ولا صلصلة.. أحيا حياة باهتة إنني أنتظر الخلاص وأدور في فراغ لا نهائي يصيبني بالغثيان.. زوجي كان سلبياً حزيناً بعد أن بعدوه عن جنتهم الموعودة فاستكان يبحث عن نفسه بلا هوية واضحة المعالم وكلما مر يوم تناثرت الأمنيات..في شرفتي المطلة على الفراغ واللون الأخضر أغمضت عيني وسافرت إلى دنيا جميلة أهوى فيها كل نسمة هواء تداعب شعري المسترسل على ظهري ارتدي بنطلوني وبلوزتي وأحمل حقيبتي في خيلاء.. أحلم أنني امتلكت زمام أمري أفتح الحقيبة أعبث في أحمر الشفاه أمر على شفتي أنظر في مرآتي فأرى فارس أحلامي المرهق يعود مرة أخرى قوياً يكسر آهات اليأس بمعول الأمل..كان لابد أن أخطو خطوات جريئة في مجتمع مغلق المرأة فيه ضعيفة يحكمها الرجل بيد من حديد فالرجل دائماً في المجتمعات القبلية منذ القدم هو سيد القبيلة وحامي النساء فالحروب ما كانت تشتعل إلا طعماً في المرأة واغتصابها وتمر العصور والمرأة ينظرون إليها نفس النظرة الدونية فهم يعاملونها على أنها مخلوق أقل من الرجل خلقت من أجل متعته ومن جل إنجاب الأطفال والكنس والطبخ والسهر على خدمة الأسرة لكن أكثر من ذلك فإن طموحات المرأة تتوقف لذلك كانت المفاجأة كبيرة بالنسبة للرجال والنساء في العائلة الكبيرة أن تعمل زيزي موظفة تذهب في الصباح ترتاد السيارة إلى بلدة أخرى وتعود بعد الظهر تحمل في يد حقيبة وفي اليد الأخرى كيساً تضع فيه احتياجاتها من السوق لقد بات الحلم حقيقة ويصبح العمل خطوة من خطوات تحقيق الذات..ما أجمل أن يحيا الإنسان من أجل هدف يسعى إليه.. بين الحقول أسير.. أهمس إلى الزهر المتراقص فوق الأغصان.. أغمض جفوني أحادث الفراشات الحائرة فوق رأسي.. يااااه مشوار الحياة يتطلب منا مزيد من الصبر وقوة الإيمان أغلقت أذني عما استمع إليه من كلمات نقد كانت تجرحني أحياناً وتجعلني أحمل هموم الكون فوق رأسي لم تفلح في أن تصبح امرأة شاطرة في الدار وفي الغيط لم تفلح أن تنجب ولداً أو حتى بنتاً فذهبت إلى القرية المجاورة تسير أكثر من ثلاثة كيلو متر على قدميها لكي تعلم أطفال المدرسة ألف.. ياء.. وهل هذه وظيفة جتها خيبة أكتر ما هيه..كانت هناك قوة خفية تدفعني دفعاً للأمام سعادتي كانت أيضاً ًبلا حدود أن ألتقي بالتلاميذ الصغار.. بلون البراءة والخضار طفل لازال يحمل عماص الجفون ورائحة النوم تفوح من فمه الصغير وأسنانه الذي ينخرها السوس.. لا يعرف ما معنى فرشة أسنان ولا سندوتش يأكله ولا صابونة يغسل بها عينيه.. طفل طازج طزاجة اللبن المحلوب وعليك أن تشكله بين يديك. تقوم له.. أغسل عينيك ويديك بعد أن تستيقظ من النوم وقول لأمك تعطيك سندويتش حلاوة طحينية.. افعل كذا.. وكذا.. إن مسئولية التعليم وخاصة التعليم الابتدائي ما هي إلا مسئولية معلم يعشق الأطفال بعيداً عن حب المال يعشقهم لغاية سامية في نفسه لقد عشقت الأطفال في مدرسة "الزهايرة" فعشقوني جميعهم بلا استثناء المدرسون والتلاميذ وهيئة التدريس صباح وحسن وخليل وحفيظة وأحمد مطاوع.. أشخاص تتحرك من حولي تمسك بالطباشير وبالقلم الأحمر تعطي نجمات تضئ للعلم طريق وتعطي أصفاراً تقول لصاحبها لملم أوراقك واترك المدرسة لغيرك كي يتعلم...............ياسر..بمريلته القصيرة وجلبابه الطويل تحت المريلة وشعره الأسمر وعينه المشعة بالذكاء وشقاوته التي فاقت الحدود لكن كان معي شيئاً آخر تلميذ مطيع يحمل حقيبته القماش ويقول للأطفال في صوت عالي.. أبي مسافر للعراق وحين يعود سوف يشتري لي بدلة ضابط وبندقية..وكعادة المراهقين بعد أن وصل للمرحلة الإعدادية إزداد شقاوة وحدة ولم يعد أبيه وفي أحد الأيام ضربه أحد رفاق السوء بمطواة في ذراعه فأصبح معوقاً لا يقوى على العمل اليدوي رغم وسامته وشعره الحالك السواد ونسيته وبعد عدة سنوات وجدته يعود ليعمل معي أمين مكتبة في نفس المدرسة..

عيد حزين

أتذكره تماما عيد الأضحى عام 1981 وتحديداً في عيد 6أكتوبر كنت ساعتها في منزل أسرتي في مدينة المطرية ومعي زوجي هذا العيد كنت أشعر بالفرحة على غير عادتي منذ أن تزوجت فهذا العيد الأول للوظيفة التي عشقتها.. العيد الأول لأول قصة أكتبها وأول قصيدة شعر إن العمل داخل أروقة المكتبة متعة كبيرة لمن يعشقها حكيت لأبي عن كل شيء الناس والسيارات النص نقل التي تنقل الناس من القرية للمدينة سيارات أعدت خصيصاً لنقل الدواب من كل شكل ولون كنت أظل واقفة بالساعات لكي أركب في كابينه السيارة الأمامية لأن الخجل كان يعتريني حين أركب داخل صندوق السيارة في الخلف لعدة أسباب أولها: فستاني الضيق والشيك.. وثانيها: شعوري بالغربة الشديدة بينهم لكن مع الأيام اعتدت التواجد بينهم وكلما جاءت سيارة أسرعت إليها أقفز بداخلها ولا مشكلة..كعادة أبي في كل عيد حينما أزوره أشعر كفاءة غير عادية بل مبالغ فيها اللحم والحلوى والفاكهية والفستان الجديد والعيدية كان فرحاً منتشياًً هذا العيد.. اجتمع الصبيان والبنات على مائدة الغداء كان التليفزيون يبث مراسم الاحتفال بعيد أكتوبر المجيد.. طابور العرض العسكري يجعل القلوب تتقافز فرحاً وتتذكر لحظة العبور من الظلام إلى النور من الهزيمة إلى الانتصار.. أكلت لحم الخروف الشهي الذي أعدته زينب زوجة أبي والأخت الحنون تحدثنا وضحكنا وحكيت لهم عن الدار وما يحدث فيها من مفارقات وكيف أن النساء تكيد بعضهن بحب أزواجهن والاستحمام اليومي والضفائر المبتلة تكون دليل هذا الحب وإذا كان النهار سباقاً رهيباً في أكل العيش فإن الليل أيضاً يشهد صراعات مستمرة في الحب فما أن تدور طلمبة في يد امرأة حتى تستيقظ جميع النساء مقلدات وحاقدات وآمرات الرجال بممارسة الحب معهن بالقوة وإلا سيكون الغد نهاراً أسود يكون بلون هباب الحلة والفرن والكانون ولا يجد الرجال مفراً إلا تنفيذ الأوامر منعاً للمشاكل وتعطيل المراكب السايرة.. فجأة ننتفض وقوفاً وننظر جميعاً في دهشة للتليفزيون طلقات نارية صوبت للمنصة هرج ومرج ثم ينقطع الإرسال.. يطل علينا المذيع يعلن عن محاولة اغتيال تعرض لها الرئيس السادات في يوم عيده واحتفاله مع أولاده كما كان يحب أن يطلق عليهم ويوجه إليهم حديثه كلما ألقى خطاباً..أصاب الذعر الجميع ألقوا الملاعق من أيديهم انفض مجلس الطعام.. هل مات الرئيس..؟؟!! يقولون أن إصابته طفيفه وهو بخير لكن القلوب تتحدث بأن أمراً مفزعاً قد حدث فالدسائس والمؤامرات تحاك من حوله والشعب كان يثور كالبركان من أجل معاهدة كامب ديفيد والصلح مع الصهاينه وموقف الدول العربية الرافض والأبواق التي تطلق الشعارات وإطلاق لقب الخائن على السادات وجيهان أم الأبطال الروايات والشائعات التي تقول بأن أشيك رجل في العالم وأغنى رجل في العالم وأن جيهان السادات كانت السبب في موت فنانة الشعب أم كلثوم لأنها أهانتها في أحد الاجتماعات بعد نصر أكتوبر ثم انتفاضة الشعب التي حطم فيها المحلات والكازينوهات وأطلق عليها السادات انتفاضة الحرامية..مظاهرات في الجامعة ترفض المعاهدة.. وتقاطع كل من يناصرها، مات السادات في يوم النصر وبيد خالد الإسلامبولي ابن من أولاده الذين كان يثق فيهم أكثر من نفسه فلم يلبس يوماً القميص الواقي عمره كان لحد كده قالها الشعب في تبلد فالقلوب المجروحة من نكسة 67 كانت لازالت تنزف بالثورة والقهر.. آلاف الجرحى والثكلى والأرامل والأيتام تتذكر وبقوة آلام النكسة التي قسمت ظهر الوطن..وفي تشييع جنازة السادات تقلبت المواجع وتذكرنا عبد الناصر وجنازات الشعب التي كانت تبكيه يا جمال يا حبيب الملايين.. حب الشعب كان جارفاً جمع فيه الحب والثورة وجمال الثورة وأحلامها وأمنياتها والمرحلة الجديدة التي عاش فيها الشعب أفراح الحرية والتأميم والاشتراكية وبعد أن مات خرجت الأقلام تنخر العظام المدفونة في التراب وتنفس سمومها مرة أخرى في روح الزعيم الذي عاش ومات مؤمناً بقضية الوحدة العربية التي تفتتت شملها بعد أن رحل ماذا سيكتب التاريخ عن عصر السادات بعد أن قتلوه رمياً بالرصاص..ترى.. ماذا سيقول عن رجل حقق لمصر النصر والحلم والعودة لأرض الوطن السليب ومرة أخرى تطل علينا نشرات الأخبار بأن السيد حسني مبارك نائب رئيس السادات أصبح زعيماً خلفاً له وأغلق ملف الزعيم الراحل المؤمن محمد أنور السادات بمحاكمة القتلة.

رجل وأمل

أسدل الستار على حادث المنصة الشهير والذي راح ضحيته الرئيس السادات.. وكل يوم ينسدل الستار في دارنا على خناقات النسوان مع أمه نجيبه وباتت تكره الواحدة تلو الأخرى وتشكو من عدم تنفيذ أوامرها.. وأنهن نسوان ليس لهن كبير.. وكثيراً ما كانت ترسل في طلبي بعد أن أصبحت أبله في المدرسة أعلم الأولاد والبنات وأمسك بالميكروفون في الصباح لأتلو النشرات الإخبارية على الأولاد فكانت ثورة في خط العمد بكامله سبع بلاد الزهايرة وكفر الزهايرة وميت غريطة والتمد الحجر والمتوه والمخزن ومنشية بطاش وعزبة شرارة وكلها قرى تابعة لمدينة السنبلاوين – بمحافظة الدقهلية وكم كانت سعادتي حين بدأت النسوة في الدار تناديني بأبله زيزي.. يا حلاوة التعليم شيء تاني يا ولاد اللهم صلي على النبي ماشية زي الضابط.. آهي مخلفتشي وعايشه مبسوطه.. تعليقات النسوة في القرية من حولي زادتني ثقة وتفاؤل وجعلت أمه نجيبه تبحث لي عن شيخ مبروك يفك عقدتي يمكن أكون مكبوسة سألتها في مودة يعني إيه مكبوسه يا أمه نجيبه في لهجة الواثق..واحدة بتحقد علينا دخلت عليكي في الصباحية وهي طارحة قلت يعني إيه طارحة..؟!! قالت يوووه يا زيزي أنا كل ما أقولك كلمه تقولي يعني إيه طارحة يعني زي ما بتقولوا في البندر مسقطه عيل لسه في بيت الولد خوفت أن أسأله يعني إيه بيت الولد لكي لا يظهر جهلي.. استمرت في حديثها الودي قائلة الليلة إن شاء الله عادل هياخدنا للشيخ "مرسي" عند بلدتكم هناك في طناح بيقولوا عليه مبروك وناس ياما حبلت على إيديه لم أشأ أن أثبط من تفاؤلها ويكفي مشاعرها الطيبة وقلت يمكن تنفك العقدة على إديه صدفة..وفي المساء جاء زوجي يملأه أمل ما في حياة أفضل بعد أن خرج من العائلة الكبيرة بلا حبيب نصيب يذكر وتحدث معي حديثاً كله ود لأن أمه نجيبه أصبحت تحبني أكثر من بناتها ولأول مرة تقوله زيزي كلها فهم وحنينه الله يصلح حالها.ركبنا السيارة وركب معه ابن أخته الذي يشبهه كما لو كان توأمه تربى معه في غرفة واحدة وأكلا معاً ولعبا معاً كان لا يفارقه وتزوج ابن أخته قبله بشهرين فقط وأنجب ولدين ما شاء الله لم يحقد عليه أبداً بل كان يحبه ويبحث وعنه لو اختفى عن ناظريه قليلاً كان حمدي ابن أخته شريكاً لنا في كل أسرار حياتنا فيذهب معنا إلى الأطباء وها هو يجلس في المقعد الأمامي بجوار خاله في السيارة وركبت أنا وأمه نجيبه في المقعد الخلفي.. وصلنا إلى قرية طناح في العاشرة مساءاً في ليلة شتوية قارصة البرودة وسألنا عن مكان الشيخ فجرى خلف السيارة وأمامها أطفال كثيرون يدلونا عليه وحين وصلنا إلى المنزل وجدنا بوابة كبيرة فتحت عن آخرها لدخول السيارة فوجدنا سيارات في حديقة المنزل لم أدر كم عددها حيث اشتد الظلام ولم تظهر سوى لمبة أو لمبتين في شرفة المنزل الواسع.وفي الصالة وجدت كنباً بلدياً مفروشاً بألوان كرتون زاهية وقد جلس عليه حالات تتقطع لها نياط القلوب.. منهم من يعاني الصرع ومنهم من يعاني الشلل الرعاش وتساءلت في نفسي أين الطب إذن..؟!! هل يستطيع رجلاً أياً كان علمه أن يعالج مثل هذه الأمراض..؟!! جاءني صوت امرأة مسنة طحنتها الأيام تحمل على إحدى ذراعيها شاباً مترنحاً يعاني مرضاً نفسياً.. جعله دائم النوم والحزن.. قالت دى شيخ مبروك أول ما يحط إيده عليك هتروق وتبقى زي الفل.. ووجدت امرأة أخرى شابه لازالت في العشرين وزوجها في مثل سنها الجهل والفقر باديان على شكلهما قالت في أسى متزوجة بقالي ثمان سنوات ولم يأت الفرج بمعنى أنها لم تنجب للآن وواحدة جارتي جت للشيخ فحبلت على طول بعد ما فك العمل إللي كان مربوط على ذيل أرموط أهبل والله ما حد أهبل إلا إحنا.. ملت على أذن زوجي هامسة: هنستنى كتير..؟!! قال: استني.. يا حمدي اتصرف إنت شاطر.. تحرك حمدي ناحية الباب وأشار لمساعد الشيخ أن يتبعه فتبعه وبعد خمس دقائق غاب المساعد وبعد لحظات ناداني أنا وزوجي وأمه نجيبه في سرية فتيقنت أن حمدي نفحه مبلغاً من المال..وداخل غرفة الشيخ "مرسي" وجدنا العجب.. إنه ديكور لفيلم هندي.. البخور والأسواط وملابس الشيخ والقرط المتدلى من أذنيه والسبح التي يلبسها أدوار متتالية وجلبابه الأخضر المنثور عليه نجوم بيضاء وما أن جلست حتى جلجل صوته قائلاً: حلوه وبنت ناس وكلك رقه وإحساس محسوده من عين الناس.. منظورة نظرة سفلية وقرينتك غايرانه منك راحت ضرباكي فوق ضهرك منعت فيكي الذرية بتبكي ليل ونهار.. زوجك صبح منهار.. علشان صبي ولا صبية.. حي.. حي..خيم الصمت على المكان وتعجبت أم نجيبه وقالت في صوت خفيت: بركاتك يا شيخ "مرسي" لما قرأ آية الكرسي أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وربنا يديه ويزيده من علمه كمان وكمان فالموضوع واضح وضوح الشمس فالشيخ يعرف كل المعلومات عن طريق جواسيسه المنتشرين في الصالة وما عليه سوى الفراسة والتنبؤ فهؤلاء نوعية من البشر تتعرف كل يوم على كم هائل من الناس فالبنت العانس شكلها بيبان والمرأة العاقر كمان شكلها بيبان خبرة يا جماعة.. المشايخ خبرة..قالت حماتي قاطعة صمتنا وقاتلة خوفنا: كل كلامك صح يا مولانا.. والحل إيه.. إحنا تعبنا إيه الحل.. قالت الصوت المرعوش المهووس: فين الغموس.. قالت حماتي.. وقد أنبأناها متحدث رسمي عني: الغموس..!! قول كل شيء موجود فيه عسل وفيه فول ومن البصل فحول بس إنت قول قال في صوت متوحش كما الغول: أعوذ بالله من البصل ومن الفول ومن كل البقول يا ستي علشان يشرف عتريس لازم تفتحي الهويس لأجل الميه تبقى أنايه والعيال تلاقيهم كتير وتقولي من الدنيا نلت منايا... استمعت لكلام حماتي ورد الشيخ وأعجبنا كلامه وتيقنت أنه كان في نفسه يبقى شاعر لكن النقاد حاربوه لإن شعره مقصر فحلل الكلام بعيداً عنهم وقال الدجل أحسن وأقول كل يوم كلمتين لزبون أو إثنين وكإني في أمسية شعرية..أخرجني من شرودي قائلاً في سخرية موجهاً كلامه لحماتي فهمت يا ستي يعني إيه الهاويس..قالت حماتي في بلاهه: لا والنبي يا ابني وضح كلامك شويه قال الشيخ المشعور وقد تحول الظلام بفعل لمبات النيون الملونة إلى نور وصرخ في حركة تمثيلية يا مسرور: احضر الطبق البنور والكلب المسحور وشعلل البخور وانطق بالحق مش بالزور..جري يا مسرور بعد أن انطفأ النور وأشعل البخور وأحضر الطبق البنور وبعد أن عزم الشيخ وقرأ تعاويذ سحره المشهور.. قال: قربي يا صبيه وارمي في الطبق من الجنيهات ميه علشان الأسياد يرضوا عليكي وعليه والأمر عاجل وفي غاية الأهمية وبلاش تاكلي محشي وتقليه أحسن بقيتي تخينه والتخن ما يفدشي الذرية..اقتربت من الطبق ووضعت فيه المائة جنيه وتراجعت للخلف قليلاً فصاح الشيخ: ابعدي كمان شويه.. وكمان شويه.. وأخيراً شخص الحالة المستعصية وقال في عصبية.."حالتك يا حلوه ممرتشي أبدا عليه كلك أنوثة وذرية ومفيش عيوب خافية عليه لكن إللي ظاهر كلك نشاط وحيويه معمولك عمل على ديل قرموط خايب عايش حياة العزوبية ودي خيبة بصراحة قوية..حاولت أن أكتم ضحكي لكن تمالكت نفسي وأنا أرى أمه نجيبه تبكي بكاءاً حقيقياً وهي متأثرة تماماً وقالت: حنيه..وهانجيب القرموط دى منين يا مولانا دى شيء صعب تلاقيه دلوأتي عايم في قلب الميه قال الشيخ في ثقة ولا يهمك حالاً يحضر القرموط ويلبس الزعبوط ويرقص قدامك تايب بالعصاية والنبوت.. حي.. حي.. ... توووت.... تووووت... سبحانه الذي لا يموت..انطفأت الأنوار واطمأن المحتار ودقت طبول الزار وكل من كان في الذكر لبس هدموه بالمندار واتهز الطبق البنور ونبح الكلب المسحور فعادت الأضواء مرة أخرى للمكان وقال الشيخ في سعادة وسرور.. مدي إيديك يا حلوه في الطبق البنور.. ومديت إيدي وكشفت الغطاء فإذا بالقرموط يعود فانبهر الحضور.. وهللت حماتي من كتر فرحتها وكانهم أخبروها بأن مرات ابنها حامل وانفكت عدتها..ركبنا السيارة مرة أخرى في طريق العودة وأنا أتعجب من حال بلدنا أم الحضارة والفراعنه أول من عرف الطب وعالجوا العقم وبهروا العالم بفن التحنيط ولن أقول إننا عدنا للخلف ألف عام لأننا من ألف عام كنا أكثر وعياً وفهماً.. من هذا الشيخ..؟‍‍؟ وكيف استطاع أن يجمع ثروته عن طريق الجهل وعقول البسطاء التي تعطيه بسخاء وقد تيقنت أنه قادر على حل مشكلات الكون فالعانس تتزوج والمعوقه تنفك عقدتها.. والعاقر تنجب.. والمصاب بالصرع يشفى وكل من به مصيبه تزول..رنت في أذني عبارات الشيخ المشعوذة فشعرت أني مقهورة بعد الكتب الثقافية والنقدية أذهب للدجل من أجل الذرية.. ضحكت أكثر وقد انتابتني نوبة عصبية ولاحظت أمه نجيبه حالتي وقالت في سذاجه مبروك يا زيزي عقدتك انفكت.. وعجبي..

ناعسة

ناعسة وأيوب قصة شهيرة تضرب في الصبر والإيمان وكل من فقدت الأمل في تحقيق ما تصبو إليه.. مرت الأيام والشهور بعد العودة من عند الشيخ وكل شهر ترسل أمه نجيبه في طلبي لكي تسألني هل تحقق المراد من رب العباد..؟!! وتصاب بالإحباط بعد كل إجابة.. لا.. لم يرد الله بعد.. فتصمت قائلة: حكمتك يا رب أما أنا فعملي أنساني كثيراً محنتي وأنا أحيا بين الأطفال أحمل رسالة الحب والعلم والثقافة..أتراقص فرحاً أقفز في الهواء كلما علمت تلميذ حرفاً واحداً.. أهم ما يميز المعلم حبه لعلمه وعمله ونقله بكل أمانه للأبناء..في ليلة شتاء قارصة البرودة أمطرت الدنيا مطراً شديداً فانقطعت الكهرباء كعادة كل القرى.. كلما أمطرت الدنيا تسابق المسئولون بقطع التيار الكهربائي عنا ضاربين بكل المصالح عرض الحائط فالطلبة لا يستذكرون دروسهم إلا على لمبات الجاز.. والرجال القابعون في الدار لمشاهدة الأخبار ينامون عند الغروب لأن التليفزيون هو التسلية الوحيدة.. والنساء لا يشاهدن المسلسل عندما تنقطع الكهرباء أما أنا فالموت بالنسبة لي يعني انقطاعها.. فلا قراءة ولا كتابة ونوم متصل حتى الصباح.. لكن هذه الليلة بالذات أشعر بالوحدة والحزن فانقطاعي عن العالم في الظلام يشعرني أنني ضريرة تخيم على نفسي كآبة وعلى روحي غصه تصل إلى حلقي لابد من حل ماذا أفعل..؟!! وقفت في شرفة منزلي المطلة على وسط الدار فوجدت المياه تغمر الأرض بغزارة والنساء تسرن حافيات الأقدام لأن الأحذية البلاستيكية تنغرس في الشِرب الذي أصبح طيناً معنى ذلك أني سأسير مثلهم حافية وسوف يلفحني تيار هواء أبيت ليلتي ساخنة وترتفع درجة حرارتي إلى أربعين درجة تراجعت عن قراري وانسحبت في هم يربض فوق صدري.. أشعلت لمبة الجاز وأخرجت من مكتبي قصة خان الخليلي لنجيب محفوظ لأعيش معه ومع بطله الكهل العاشق المريض لأسري عن نفسي قائلة من شاف بملاوي الناس هانت عليه بلوته.. ومن صوت ذكريات الماضي ترامت لأذني أغنية نعسه لمطربة شعبية هي خضرة محمد خضر كانت بطلة في مسلسلات زكريا الحجاوي هذا المطراوي العجيب الذي عشق البحر والصيادين والمداحين كتب أشهر المسلسلات الشعبية التي صورت حياة البسطاء في القرى والمدن الصغيرة والتي دائماً ما كانت تحمل في طياتها محاربة الغزاة والدم الحر الذي يغلي في العروق ثائراً رافضاً الغرباء والدور الكبير الذي لعبته المطربة في احتضان الفدائيين السابحين في بحيرة المنزلة فالمدينة مثلها مثل بورسعيد لها دائماً دور البطولة في كل انتصار فالأخ يسكن في المطرية وأخيه يسكن على الشاطئ الآخر في بورسعيد تربطهم روح البطولة والتضحية والفداء عاش زكريا الحجاوي في زمن رفع فيه شعار مصر لأبنائها فقط مهما مرت السنين وطالت الأيام ولكن لماذا تذكرت ناعسة الآن هل لأنها تذكرني بنفسي.. الصبر طيب يا ناعسه يأتيني صوت أيوب ممثل قدير لا أدري من لكن صوت ناعسة مميز إنها القديرة نجمة إبراهيم الذي مثلت باقتدار دور ريا هذه المجرمة القاتلة التي اقتضيت للإعدام شنقاً بتهمة قتل النساء وسرقة ما يتحلين به من أساور هاهو صوتها يأتيني في الظلام فأخاف وأطمئن وأفرح وأحزن وأضحك وأبكي في مشهد هستيري لا يتكرر إلا حينما أعتزم كتابة قصيدة خالدة تقول: ناعسة أيوب كان زوجاً محباً وأباً حنوناً ورجلاً ثرياً يمتلك الضياع والأغنام والأبقار والأبناء.. ابتلاه ربه بالمرض العضال الذي يجعله لا يقوى على تحريك أي جزء من جسده لدرجة أن الدود بدأ ينهش لحمه وعظامه ومع ذلك ظل صابراً يذكر الله ويلهث لسانه بالشكر حتى عندما تخلى عنه الأهل والأصدقاء ولم تبقى معه سوى زوجته الوفية الجميلة "ناعسه" ظلت إلى جواره تحبه وترعاه وتخفف من مصابه وآلامه مل أيوب من داره فحملته ناعسة إلى البحر بعد أن شعر أن رائحة جسده بدأت تنتشر في المكان وفي يوم من الأيام ذهبت إلى المدينة لتشتري طعاماً وهي لا تملك (تلملمك) درهماً واحداً وتسولت رغيف الخبز وحين رأت النسوة جمالها الفتان وشعرها المسترسل حتى ظهرها شعرن بالغيرة الشديدة وطلبن منها أن تعطيهن ثمن الرغيف فأقسمت أنها لا تملك أي درهم فطلب منها النسوة شعرها مقابل الرغيف.. وبالفعل قامت النسوة بحلق شعرها بين أناتها وبكائها.. على ضياع زوجها وضياع شعرها وأنوثتها ظل أيوب ينتظرها على أحر من الجمر وقد شعر بأنها هجرته كما هجره كل البشر وأقسم أن يجلدها بالسياط إن هي عادت أو عادت إليه صحته وبكت ناعسة وخافت أن تعود لأيوب بعد أن حلقت شعر رأسها وتحسست ضفائرها فلم تجدها فجلست على شاطىء البحر تبكي وتحمل الرغيف وحين هجم الليل بكآبته ووحشته خافت وأخذت تجري إلى أيوب ظلت تبحث عن الرجل المريض الذي أتت به جثة هامدة يأكلها الدود فلم تجد سوى رجلاً صحيح البدن جميل الطلعة شاب تخجل العيون من النظر إليه ذكرها بشباب أيوب وسألته: يا عم هل رأيت رجلاً مريضاً كان يجلس هنا فيرد أيوب ذلك الشاب الذي أعطاه الله صحته مرة أخرى بعد أن صبر على ضياعها قائلاً لا والله يا عم معتقداً أنها رجل ولكن ناعسة ظلت تجوب الشاطىء ليلاً في ضوء القمر الساطع وتسأل من خلال دموعها عن أيوب الشاب الجالس والذي يرد كل مرة بالنفي ويضمر الشر في نفسه لزوجته التي هربت ولم تعد للآن ولكنه شعر بعطف غريب ناحية المرأة التي تسأل عن الرجل المريض.. ناداها.. يا عم.. قالت نعم.. قال ما اسم المريض الذي تسالين عنه.. قالت أيوب.. انتفض الرجل وشعر أن قلبه يقفز بين ضلوعه.. اقترب يا رجل.. اقتربت ناعسة.. قال اقترب أكثر.. اقتربت.. دقق في ملامحها عرفها.. إنها حبيبته ناعسة.. ناعسة.. أيوب.. ناعسة.. أيوب..وكانت النهاية السعيدة بأن عادت لأيوب صحته وقوة وحبيبته ناعسة وأمواله وأولاده وفوق كل هذا نمت ضفائر ناعسة من جديد ليسعد أيوب..كانت قصة ظلت تدوي في عقلي وفي سمعي وفي ليلي المظلم الكئيب.. ترى هل تعود شمسي تشرق ثانية في قلبي المعتم..؟!! ويرن صوتها الصبر طيب.. الصبر لك أحسن دوا للعاشقين والمغرمين وأهل الهوى.. سبع سنين يا أيوب تصلي على النبي..

عزيزة ومحمود

كثيراً ما كانت السيارة النص نقل التي تقلني إلى مدرستي في قرية الزهايرة تختفي بلا سبب وبلا مبرر وبلا سبب واضح للغياب اللهم إذا أمطرت الدنيا وكثر الوحل المتراكم على الطريق الزراعي مما يمنع الحركة من القرية وإليها ولا أجد مفراً إلا السير في هذه البركة الموحلة مسافة 2كيلو متر في ظروف غاية في التعب والصعوبة أحياناً كنت أدندن بأغنية عاطفية لأم كلثوم أو عبد الحليم وأحياناً أخرى أكتب قصيدة شعر أنسلخ بها عن العالم بأسره فالسير بين الحقول متعة كبيرة فالزرع صديق وفيَّ يستمع في صمت لا يتكلم أحكي له عن أحزاني فيهتز حزناً وأحكي له عن أحلامي فيرهف السمع كانت المسافة تطول بصعوبة الطريق فأدقق النظر لكل شيء من حولي حتى المصرف تلك البركة الراكدة بمياه الترعة والذي يطلقون عليه اسم الجربوع أرى ألوان قوس قزح تبدوا طافية عليه.. القاذورات تنتشر حوله بفعل قبيح من البشر.. ألوان مختلفة من مخلفات الإنسان. لفت نظري أثناء السير شيء غامض جلباب نسائي بلون ريفي رأيته مشهوراً بين نساء قريتي والقرى المجاورة. إنه شعبان بائع القماش المتجول يحمل بقجته فوق ظهره ويتجول بين الدور في الريف.. الجلباب ملفوف وكأن به شيئاً تعجبت وسألت نفسي ترى ما هذا الجلباب وما هذا الشيء الملفوف بداخله..؟؟‍‍ومن الذي ألقى به ليلاً في هذا المكان الموحش. سرقتني الأسئلة وحوارات النفس جعلتني أجد نفسي وجهاً لوجه أمام المدرسة كل الأشياء مغسولة زاهية ما عدا فناء المدرسة فقد امتلأ بالمياه.. فرح التلاميذ وتغيبوا من المدرسة ومن جاء فرح أكثر لاختفاء الطابور.. مر اليوم كئيباً مملاً.. زيطة وهيصة فالمدرسون هم أيضاً منحهم الشتاء إجازة إجبارية لانقطاع الكهرباء والمواصلات.. الفسحة هي الأخرى ألغيت فخرجنا في شبه مظاهرة.. الجرس ضرب يا شيخ العرب وكأننا انتصرنا في أحد المواقع الهامة وهذا ما يفسر لنا ظاهرة تسرب الطلبة من المدارس وخاصة الفتيات لعدم وجود وسائل جذب بها ضرب وعنف وعقد من المدرسين عن طريق الدروس الخصوصية وعقد أخرى من أولياء الأمور الذين اعتبروا المدرسة "وسيَّه" تعلم أبناءهم وتكسيهم وتؤكلهم فيحدث المتوقع الهروب والتسرب فلا ولي أمر يصرف ولا المدرس يتنازل عن الدرس الخصوصي حتى مقابل أي شيء بيض.. فراخ.. عسل...في طريقي للعودة سيراً على الأقدام أيضاً شعرت بالتعب والإرهاق ظللت أتباطأ أنظر للأمام أو الخلف لعي أجد سيارة تنقلني لقريتي وبينما أنا أنظر إذا بجمع من النساء يلتفون ويتحدثون بصوت عالٍ: هي مفيش غيرها.. لا حول ولا قوة إلا بالله. دى ولد يا أم السعد.. يا خيبة يا ختي ع البنات ها تعمل إيه.. كانت ها توديه فين..؟!!اقتربت شيئاً فشيئاً من الجربوع ذلك المصرف الصغير فوجدت الجلباب الذي رأيته صباحاً وتظهر من داخله رأس جنين ميت وكل من له رأي أفتى به للاستدلال على صاحبه هذا الجنين لتكون فضيحتها بجلاجل لم يسألوا من أبوه..؟!! ولكن سألوا من تكون الفاجرة التي فعلت هذه الجريمة الشنعاء.. قضية غاية في الخطورة أن يتهموا المرأة وحدها دون الرجل وتظل المرأة حاملة وصمة العار ما بقيت من حياتها وعلى الرغم من أن الفاعل معروف إلا أن المجتمع يتسامح ويصمت ويصب جام غضبه على الفتاة وآه حين ينتقمون منها رجماً بالكلمات وأحياناً بالفعل وكثيراً بالحكم عليها أن تظل عاهرة طوال الحياة.. انصرفت إلى حال سبيلي وهذا المنظر يلازمني ويلح في تكرار داخل عقلي الباطن.. ما ذنب تلك الفتاة لقد أحبت وأعطت حبيبها كل شيء لقد ضحك عليها أوهمها بأنها الأولى والأخيرة في حياته وأنه لو لم يفعل معها هذا الشيء سوف يموت وينتحر وتصدقه الفتاة وتظل تعطيه بلا حساب حتى يمل منها ويتهرب من لقاءاتها وإذا شعرت بالخطر أخبرته بالكارثة إتهمهما في شرفها وفي أخلاقها قائلاً إيش عرفني إني أبوه وتدور الفتاة تبحث عن حل لأزمتها من يخرج بها من تلك الكارثة المميته.. بلا جدوى ويتحرك الجنين فتتأجج الكلمات.. تفور.. تغلي الفتاة كالبركان.. ماذا تقول..؟!! وكيف يتقبل المجتمع عارها.. آفة ولعنة تصيب المجتمعات الشرقية من هنا جاء كره الأنثى ولعي أسجل هنا حادثة لأب قتل أربعة من بناته وشروع في قتل اثنتين في ليل رمضان من عام2004.. الرجل صعيدي يتمنى أن يكون المولود ذكراً لكن الزوجة أتت له بسبع بنات فثارت ثورته وعلى الرغم أنه قتل البنات الأربعة بلا ذنب إلا أنه تنبأ بالعار وخاف منه وظل الخوف يضغط على أعصابه بشده حتى انهار مستسلماً لرغبته الجنونية في التخلص منهن بالذبح..حمدت الله على أني لم أنجب بنتاً ولا ولداً ووضعت رأسي كي أنام لكن كوابيس أحلامي لاحقتني في جزيرة مذبوحة الأحلام ضائعة الوطن بلا هوية مكسورة النفس والخاطر سمعت آذان الفجر كما سمعت آذان العشاء استيقظت متعبة... كوابيس النوم ظهرت بوضوح على العينين المتعبتين فأسبلت الجفون..لم أتناول طعامي كالعادة وشقيت بقدمي قلب الحقول ودققت النظر لعلي أجد جنيناً مثل جنين الأمس وفي المدرسة كانت المدرسات يتحدثن في همس عما حدث بالأمس قالت أبله صباح المنجي: حماتي قالت إنها عارفه إللي عاملت العملة دي.. ردت النسوة في صوت واحد.. مين هيه يا ترى زمان حماتك عارفه ماهي دايه مولدة نسوان البلد على إيديها. قالت صباح في مكر: الله أعلم ردت عليها إيمان الفقي في بجاحة: آه منكم يا فلاحين الخبث والمكر صفات ثابته فيكم أعوذ بالله.. وما أن سكتت إيمان حتى بادرتها ليلى رمضان: اسملا عليكم يا بتوع البندر البنت من دول تبقى حامل وتضحك على الراجل من دول وتتجوزه وتكتب العيل إللي ولدته على اسمه.. آل البندر آل.. إللي إللي البت فيه بتحط أبيض وأحمر وأخضر وهيه لسه ما طلعتشي من البيضة.. وتدخلت قائلة: الموضوع أخطر من كده بكتير.. البنت عندنا تعرف الصح من الغلط وتعمل ألف حساب لأي غلطة تقع فيها..؟!! قالت صباح والله أمي كل ليلة تتحسر على البنات إللي بتضيع باسم الحب.. واحده حبت واحد وفض يتحدلب لغاية ما نال غرضه وبعد كده خلاص.. سبها وهرب.. كلام.. شائعة.. فتوى مجتمع فاضي.. لا شغلة ولا مشغلة.. حصة فاضية على حصة فيها شغل ويعدي النهار ككل نهار..جدتي أم علي كانت واعية ومحنكة دايماً تقولي خلي الراجل على نار طول ما إنتي لسه على البر سيبيه يفكر فيكي ليل ونهار ويصبح مشغول البال علشان يجري وراكي بالمشوار.. وده طبعاً في الحلال لكن الحرام ربنا يبعدك عنه..وفي الدار كان لابد أن أجلس جلسة نسائية في حجرة الفرن في الشتاء والقش والموقد والكانون ما أحلاها عيشة الفلاح.. براح في براح.. الجلسة كانت نسائية بحته ضحكت النساء الصغيرات زوجات الأبناء و النساء الكبيرات أمهات الأبناء أما رئيسة الجلسة أمه نجيبه كالعادة.. افتتحت الجلسة كحاجب المحكمة ونادت أمه نجيبه إيه إللي حصل عند الجربوع إللي بين بلدنا والزهايرة.. قالت في شماتة لزوجة ابنها البكري الذي بكرت بأنثى: بنات آخر زمن ربنا يستر على ولايانا.. مصمصة النسوة قائلات في صوت واحد ياعيني ع الولايا.. قالت أمه نجيبه في لحظة حاسمة كمن أطلقت الحكم بلا استئناف.. دول عايزين ضرب النار صايب يا خايبه يا اختي ع البنات وقال إيه البنت زي الولد مهيش كمالة عدد دي كمالة عدد ونص كمان الله يرحمك يا أمه خضرة كانت يوم ميلاد البنت تصبح جنازة في الدار. استمعت إلى جنازة من اللوم والعتاب والسباب للبنات وإللي خلفوا البنات وكانت الكلمات تنزل على أذني كنقط من نار حامية الوطيس فتزلزلني وتأججني وأحمد الله على أني لم أنجب إناثاً في هذا الجو المشحون بالعصبية للذكور لكن أين المنطق وأين الرأي الخاص والتأثير في مجتمع البسطاء قلت بعد معاناة.. على فكره يا أمه نجيبه البنت هنا مظلومة.. نظرت أمه نجيبه نظره كلها عتاب والشرر يتطاير من عينها.. لأن هذه الكلمة تعني أنها سوف تفقد تحديها للمرأة التي تنجب إناثاً في الدار قالت.. وقد عادت إليها نبرتها الشرسة: إنتم عندكم في المطرية البنات حلوين أمال..؟!! ملايكة.. يااختي اكسري للبنت ضلع يطلع لها أربعة وعشرين.. كانت كلماتها تشتد عنفاً وشراسة شعرت بأني على أعتاب مشكلة مستعصية فالصدام معها يعني مشكلة كبيرة أولها أني سأفتقد جلسة البراني الدافئة واجتماع النسوة ومشاركتهن حديث المودة والحب لكني اعتزمت أن أفضفض مهما كان الأمر قلت: ع فكرة البنت هنا لو اتعلمت ودخلت الجامعة هتعرف تحافظ ع نفسها لكن أنا دايما بسمعك تقولي أدام البنات إللي في ابتدائي وإعدادي البنات إللي بيتعلموا وبيروحوا السنبلاوين بيحبلوا وأهلهم بيقتلوهم فانصرفت البنات عن التعليم وفكروا في الجواز والعريس وخابوا في المدارس انتفضت المرأة واقفة تيقنت أن قرار طلاقي من الدار لازال فكرة قابلة للنقاش في رأسها مهما كان وضعي إن شاء الله أكون وزيرة.. شوحت المرأة بيديها لتعلن عن انفضاض الجلسة قائلة يالله يا مرة إنتي وهيه كل واحده تشوف وراها إيه أحسن مرات عادل هتبووظ أخلاقكم يالله يا اختي اطلعي على فوق بدال ما تخيبي في المدارس.. لملمت أشلائي المبعثرة من عجرفتها وإهانتي الغير منتظرة وأخرجت سلسة مفاتيحي وقبضت على مفتاح الشقة وتساءلت في نفسي ترى ماذا تدبر لي أمه نجيبه بعد هذه المواجهة الساخنة وهل تستطيع أن تنزعني بعد أن ذرعت جذوري في هذه الأرض الطيبة وأصبحت جزءاً منها رائحتها تحييني.. نسيمها يحملني إلى أنهار أحلامي فأسبح فيها.. وفي شقتي انقطع التيار الكهربي كالعادة.. فانزلقت قدمي ووقعت بسبب تسرب مياه الثلاجة على الأرض ورغم آلامي النفسية والجسدية أوقدت لمبة الجاز واحضرت أوراقي لأكتب أجزائي مرة أخرى في مجتمع لم ولن يرحم المرأة.. ظللت ساهرة أعافر أحزاني بجوار الزوج المرهق من عناء العمل..وفي الصباح كالعادة توجهت إلى الطريق الزراعي فوجدت سيارة شرطة وضباط وعساكر.. انقبض قلبي.. استعذت بالله.. الموضوع كبير.. فيه إيه يا جماعة.. الصمت يخيم على المكان.. دموع بعض النسوة.. وحده مقتولة ومرمية في أرض الأرز.. مين يا ترى.. لم نعرف.. دارت الدنيا بضحية جديدة امرأة أم فتاة في ريعان الشباب تقتلها آيات التخلف وأحزاب الرجعية ماذا فعلت..؟؟!! هموم الدنيا فوق رأس "هنادي" طه حسين تعود قتلها الخال لأنها جاءت له بالعار.. ملأ يديه بالدم وحين سألوه عنها.. قال: أخذها الوبا كل يوم على صفحات الجرائد نقرأ قتلها أبوها لسوء سلوكها وجودها مقتوله بعد اكتشاف حملها السفاح حوادث تقهر البنات.. وتربي لديهم عقدة الخوف من الحب وإمكانية التعرف على فتى الأحلام فتصاب بالرعب والهلع..خرجت من صمتي على صوت إحداهن.. دي بنت غريبة من بلد بعيده.. اسمها "عزيزة" كانت حامل وبتقول جوزها في العراق والظاهر أهلها عرفوا فموتوها وموتوا الواد إللي ولدته.. انصرفت إلى حال سبيلي.. وبعد أسبوع قرأت الحادثة وتفاصيلها كانت عزيزة تعشق أحد شباب قريتها ففعل فعلته وسافر العراق.. والتفاصيل كانت مكتوبة في كيستها المربوطة بسير السنتيان البفته والإمضاء كانت محمود..

فوزية ضرتها

مرت الأيام وأمه نجيبه تعلن حربها الشرسة عليه وتريد الاتصال بزوجي لتخبره عن العملة السوداء التي قمت بها وواجهتها بأنها سبب جهل البنات في الدار.. لكن زوجي مشغول لا أجده أنا فهل تجده هي..كانت النسوة الصغيرات يصعدن إلى شقتي في الليل حين تنام بعد أن يعلوا الضغط مهدداً إياها بمرض تقيل فتخاف تتناول الحبوب وتنام قلبي لا يزال يعلن الحداد على عزيزة الغريبة.. لماذا اختارت بلدتنا لتعيش فيها..!! وأين كانت تعيش..!! وكيف استطاعت أن تحتمل القسوة والمرارة والحمل لفتاة لازالت تخطو خطوتها الأولى لعالم الحلم الوردي بلا أم ولا صديق.. وكم فتاة تذوقت كأس المرارة باسم الحب.. الحب في مجتمعنا لا يفهمه الرجل فالغريزة تتحكم بلا شك حين يلتقي الشاب بفتاة يحبها أو حتى يستريح لها فالحالة الاقتصادية والأحوال المتردية وسوء العمل الذي يعج بالبطالة والتسكع في الطرقات بلا عمل جعل الشباب يتحولون إلى ذئاب جائعة تبحث عن فريسة لتغتال براءتها فتارة نسمع عن الجواز العرفي وتارة أخرى عن الاغتصاب ومرات كثيرة عن الفعل الفاضح في الطريق العام أو على صفحات الجرائد اليومية ضبط فتيات الجامعة في أوكار للدعارة يا للعار.. يادي المصيبة لو كانت أمه نجيبه تتابع الجرائد.. لكانت فضيحتي معها بجلاجل وهي تعايرني بأن المتعلمات أيضاً منحرفات.. بماذا أفاد تعليمهن..؟؟!! شيء يدعو للحزن بالتأكيد..قضية تناقش يومياً من قبل المهتمات بقضايا المرأة ومجالسهن وأخبارهن قائلات في شعارات لا أدري صحتها ممنوع العنف ضد الإناث والعنف يتمثل في الضرب والختان سألتني عايدة مرات صلاح يعني إيه ختان قلت: يعني الطهارة قالت في دهشة: يا خرابي دي البت إللي ما تتطاهرشي بتبقى هايجة.. سكت ولم أناقشها فالقلب فيه ما يكفيه وتابعت مفهوم العنف ضد الإناث هل العنف يتمثل في اقتطاع هذا الجزء إن الإنسان لو قطعوا أقدامه أو أخذوا أي عضو منه فإنه يعيش فلماذا لا تعيش الفتاة بعد اقتطاع هذا الجزء..؟؟!!!أنا أعتقد أن وقف العنف ضد الإنسان يتمثل في مواجهة الفضيحة التي تعاني منها الفتاة بعد اغتصابها بإرادتها أو بلا إرادتها.. هل بعد أن تحمل الفتاة ويتهرب الرجل عنف يمارس.. أعتقد أن كثيرات منهن يقدمن على الانتحار لكي يتخلصن من العار والفضيحة وحتى بعد أن ترحل كافرة فإن سمعتها تظل عالقة بأذهان المجتمع لا تمحوها السنين..حكايات النساء دائماً تدور في المجتمعات الشرقية حول شيء واحد الشرف والعفة والحب والزواج والطلاق.. لا قضايا معاصرة.. وإن ظهرت فهي في إطار الزواج العرفي – الخلع - محكمة الأسرة خلل ما يصاب به المجتمع الإقليمي والقروي والصعيدي وأهم ما يدعو للسخرية زواج الرجل بأكثر من وحده وهو ما يتدرج تحت مسمى "تعدد الزوجات" أي يتجوز الرجل بمن تحلو له الدين والشرع حلل له ذلك إن كان قادراً على أن يعدل بينما إذا كان يميل لإحداهن دون الأخرى فبالتأكيد عدم زواجه أفضل وبطلة قصتنا فتاة في العشرين جمالها يفوق الوصف ضفائر سوداء مسترسلة تنسدل على قمر يسير على قدمين.. يهتز غصن البان فتميل قلوب العاشقين والطامعين ومن في قلوبهم مرض. فلا نرى من يغض بصره بل يبحلق في شراهه وجنون..فوزية وقد كان هذا اسمها.. أشهر فتاة في القرية فوالدها شيخ الغفر الشحات أبو الريش.. طول وهيبة وسبع فدادين ورثهم من الإصلاح الزراعي عن أبيه الغفير النظامي الذي كان يعلق بندقيته الميري التي يعلوها التراب وجلبابه الأخضر القديم وفوقه البالطوا الأصفر ذات الأزرار الكبيرة أصيب بداء العظمة والغرور وعندما أصبح من الملاك بعد أن ذاق المر وبطنه أصابتها العفن من دود المش لم يصدق الرجل نفسه وهو يقبض الجنيهات في كل موسم حصاد حاول أن يستوعب الوضع الجديد لكنه لم يقدر فأصابته لوسة وكتر كلامه عن الثورة وجمال عبد الناصر الذي علق صورته في المندرة بعد أن أصبح عضواً في الاتحاد الاشتراكي تجنبه الرجال في القرية لأنه يصيبهم بالصداع من جراء صوته العالي المتحدث بلسان الثورة والشيوعية والمثقفين فأصيب بالمرض وسرعان ما مات مخلفاً لإبنه الشحات سبع أفدنة فخرج الشحات مغروراً بالفطرة والولاده مغرور ابن مغرور وولدت فوزية وإللي اقتبس من اسم الأميرة فوزية فالشحات كان يشعر بأنه أصبح برنس وأبيه أمير.. آآه يا ولاد الكلب عاملين ولاد الثورة وإنتم نفسكم ترجعوا أمراء إقطاعيين بتتمسحوا ليه في الملك هيه الأميرة فوزية دي اخواتها الأميرات فايزة وفوقية إخوات الملك فاروق طب ما سماهاش هدى ليه على اسم بنت جمال ولا سماها عيشة على اسم وزيرة من بنات الثورة..كلام كانت البلد تردده.. كلمنا تمنعت فوزية ورفضت عريس من ولاد البلد أنا هتجوز في السنبلاوين.. بلد إيه الفلح دي.. ومرت الأيام وترامت الأخبار في القرية على لسان أهلها بأن فوزية خطبت لمهندس في السنبلاوين يا حلاوة مهندس دى إيه النهاردة.. وتم زفاف الأميرة فوزية بنت البرنس علاء اقصد البرنس الشحات أبو الريش في حفل مهيب شاركت فيه فرقة الأوبرا عفواً دائماً أتذكر حفل زفاف الأميرة فوزية على شاة إيران عزفت فرقة حسب الله أغنية "أما نعيمة.. نعمين.. خلي عليوه يكلمني" وغنت عايدة الشاعر في المسجل.. "الطشت قالي.. الطشت قالي.. يا حلوه يا إللي قومي استحمي".. وها هيه فوزية الحلوة استحمت يوم الصباحية والشحات آخد عربية بها كل ما لذ وطاب من فطير مشلتت.. ورز وبط وحلويات.. وخلافه..أنجبت فوزية بنت بعد عامها الأول من الزواج.. بعد اكتشاف أن المهندس طلع دبلوم صنايع ويعمل في ورشة لمعلم كبير وإن فوزية كانت السلم الذي سوف يصعد عليه لتحقيق طموحاته فالأخبار وصلت إن فوزية ليها فدان ملك.. أبوها كتبه على اسمها وحين علم الشحات بالملعوب خاف من كلام الناس وحط سره في عبه.. وقال في استلام إنه المقدر والمكتوب. فوزية استسلمت للأقدار وانشغلت بتربية بناتها الأربع ليلاً ونهاراً تغضب عند ابوها شويه وتغضب عند أخوها شويه.. ولطشت معاها الأيام أما زوجها المهندس الفاشل فذهب إلى غير رجعة وبحثت عنه كثيراً فلم تجد له أثر لكن أولاد الحلال أخبروها بأنه يعمل في إحدى الورش في ليبيا فاستطاعت أن تحصل على العنوان وأرسلت له شرائط تسجيل تخبره بأن البنات يسألن عليه وهي تعاني بمفردها في تربيتهن.. ولكن ذهبت محاولاتها أداج الرياح فلملمت جراحها وحلمها الخائب في السكن في المدينة الكبيرة التي بهرتها بالأضواء والمباني العالية والأسفلت وخبأت دموعها المنهمرة فوق خدودها الذابلة وجمالها المنزوي مع الأحزان وأتى والدها الشحات بسيارة نصف نقل ليحملها حملاً إلى القرية فودعت جيرانها والسوق المجاور لها والفاترينات التي كانت تعشق الفرجة عليها كلما غدت أو راحت ظلت دموعها تغسل عينيها في قسوة وهم ونهرها أبوها قائلاً يا سلام يعني كنتي في الجنة يا بت إيش حال لو ما كنشي مدوقك المرار مش هيه دي شورتك يا شماتت البلد فيك يا شحات.. يا إللي خبت في تربيتك.. حظي كدى يا آبه معتشي ييجي منه مقدر ومكتوب.. والمكتوب مفيش منه هروب.. نظرت فوزية إلى بناتها اللاتي أصبحن من بنات المدينة ملابسهن شعورهن المسترسلة.. أحذيتهن الجلدية.. زفرت زفرة طويلة أحرقت صدرها وهي تعلم مصير البنات في القرية فالكبرى إحدى عشر عاماً والصغرى في الرابعة من عمرها ومنذ ولادتها ومشاكلها لا تنتهي مع الزوج الذي كان يريد ولداً.. وهي لا تأتي له إلا بالبنات.. لا إله إلا الله.. وما ذمبها..؟؟!! وبرغم تحذيرات وسائل الإعلام للأم التي تنجب وتعرض نفسها لمشاكل صحية كبيرة وبرغم الملايين المهدرة التي تنفقها الدولة بلا رحمة على وسائل منع الحمل التي تحتوي على الحديد واللولب والحقن إلا أن النساء لا تزال تحمل وتنجب ضاربة بنصائح ماما كريمة عرض الحائط فمن تريد ولداً تظل تنجب حتى لو أنجبت دسته كاملة من البنات.. كل ذلك لا يهم المهم الواد ييجي وخلاص بعد أن تكون العائلة انشطرت وكثرت وجاعت فلا طعام ولا ملبس ولا مأكل وتسدين وتوضع في تعداد الأسر الفقيرة التي تحتاج إلى زكاة والأم فرحانة لأنها كادت العزال وأصبحت أم جميل بدلاً من أم جميلة.. أفاقت فوزية من شرودها على صوت أبيها يشخط في البنات يالله يا بت إنتي وهيه.. ابتلعت دموعها في حسرة وقالت في سرها: ربنا يستر أول القصيدة كفر يا حسرة قلبي عليكوا يا بناتي.استسلمت فوزية لحياتها في القرية وازدادت ألماً وغماً وهماً وهي تراهن يتحولن إلى بنات قرويات في كلامهن.. أزيائهن.. فلم تعد تشتري لهم سراويلاً بل حلت العباية الواسعة مكان السروال واختبأت شعورهن بخمار كبير فبات شكلهن أكبر من سنهن الحقيقي.. فانابتها اكتئاب وصمت كلما تذكرت أيام الزوج الهارب الذي تزوج عليها في القرية وأنجب ولداً ويعيش حياته كأنه لم يعش يوماً معها ولا مع البنات..انتهت قصة فوزية التي استمعت إليها من "عيوشة" دلالة القرية التي كانت تنافس بضاعتها الحاج شعبان لأنها استطاعت بخبرتها أن تتعرف على أذواق النساء ومطالبهن الخاصة بلا خجل فراجت بضاعتها بفضل حلاوة لسانها وحكايتها التي يفوح منها عبق الأسرار وما أسعد المرأة حين تتعرف على سر امرأة تتاجر به في أثناء النميمة النسائية..
 
أنشأ هذا الموقع ويدير تحريره الكاتب الأديب مجدى شلبى