ناعسة

ناعسة وأيوب قصة شهيرة تضرب في الصبر والإيمان وكل من فقدت الأمل في تحقيق ما تصبو إليه.. مرت الأيام والشهور بعد العودة من عند الشيخ وكل شهر ترسل أمه نجيبه في طلبي لكي تسألني هل تحقق المراد من رب العباد..؟!! وتصاب بالإحباط بعد كل إجابة.. لا.. لم يرد الله بعد.. فتصمت قائلة: حكمتك يا رب أما أنا فعملي أنساني كثيراً محنتي وأنا أحيا بين الأطفال أحمل رسالة الحب والعلم والثقافة..أتراقص فرحاً أقفز في الهواء كلما علمت تلميذ حرفاً واحداً.. أهم ما يميز المعلم حبه لعلمه وعمله ونقله بكل أمانه للأبناء..في ليلة شتاء قارصة البرودة أمطرت الدنيا مطراً شديداً فانقطعت الكهرباء كعادة كل القرى.. كلما أمطرت الدنيا تسابق المسئولون بقطع التيار الكهربائي عنا ضاربين بكل المصالح عرض الحائط فالطلبة لا يستذكرون دروسهم إلا على لمبات الجاز.. والرجال القابعون في الدار لمشاهدة الأخبار ينامون عند الغروب لأن التليفزيون هو التسلية الوحيدة.. والنساء لا يشاهدن المسلسل عندما تنقطع الكهرباء أما أنا فالموت بالنسبة لي يعني انقطاعها.. فلا قراءة ولا كتابة ونوم متصل حتى الصباح.. لكن هذه الليلة بالذات أشعر بالوحدة والحزن فانقطاعي عن العالم في الظلام يشعرني أنني ضريرة تخيم على نفسي كآبة وعلى روحي غصه تصل إلى حلقي لابد من حل ماذا أفعل..؟!! وقفت في شرفة منزلي المطلة على وسط الدار فوجدت المياه تغمر الأرض بغزارة والنساء تسرن حافيات الأقدام لأن الأحذية البلاستيكية تنغرس في الشِرب الذي أصبح طيناً معنى ذلك أني سأسير مثلهم حافية وسوف يلفحني تيار هواء أبيت ليلتي ساخنة وترتفع درجة حرارتي إلى أربعين درجة تراجعت عن قراري وانسحبت في هم يربض فوق صدري.. أشعلت لمبة الجاز وأخرجت من مكتبي قصة خان الخليلي لنجيب محفوظ لأعيش معه ومع بطله الكهل العاشق المريض لأسري عن نفسي قائلة من شاف بملاوي الناس هانت عليه بلوته.. ومن صوت ذكريات الماضي ترامت لأذني أغنية نعسه لمطربة شعبية هي خضرة محمد خضر كانت بطلة في مسلسلات زكريا الحجاوي هذا المطراوي العجيب الذي عشق البحر والصيادين والمداحين كتب أشهر المسلسلات الشعبية التي صورت حياة البسطاء في القرى والمدن الصغيرة والتي دائماً ما كانت تحمل في طياتها محاربة الغزاة والدم الحر الذي يغلي في العروق ثائراً رافضاً الغرباء والدور الكبير الذي لعبته المطربة في احتضان الفدائيين السابحين في بحيرة المنزلة فالمدينة مثلها مثل بورسعيد لها دائماً دور البطولة في كل انتصار فالأخ يسكن في المطرية وأخيه يسكن على الشاطئ الآخر في بورسعيد تربطهم روح البطولة والتضحية والفداء عاش زكريا الحجاوي في زمن رفع فيه شعار مصر لأبنائها فقط مهما مرت السنين وطالت الأيام ولكن لماذا تذكرت ناعسة الآن هل لأنها تذكرني بنفسي.. الصبر طيب يا ناعسه يأتيني صوت أيوب ممثل قدير لا أدري من لكن صوت ناعسة مميز إنها القديرة نجمة إبراهيم الذي مثلت باقتدار دور ريا هذه المجرمة القاتلة التي اقتضيت للإعدام شنقاً بتهمة قتل النساء وسرقة ما يتحلين به من أساور هاهو صوتها يأتيني في الظلام فأخاف وأطمئن وأفرح وأحزن وأضحك وأبكي في مشهد هستيري لا يتكرر إلا حينما أعتزم كتابة قصيدة خالدة تقول: ناعسة أيوب كان زوجاً محباً وأباً حنوناً ورجلاً ثرياً يمتلك الضياع والأغنام والأبقار والأبناء.. ابتلاه ربه بالمرض العضال الذي يجعله لا يقوى على تحريك أي جزء من جسده لدرجة أن الدود بدأ ينهش لحمه وعظامه ومع ذلك ظل صابراً يذكر الله ويلهث لسانه بالشكر حتى عندما تخلى عنه الأهل والأصدقاء ولم تبقى معه سوى زوجته الوفية الجميلة "ناعسه" ظلت إلى جواره تحبه وترعاه وتخفف من مصابه وآلامه مل أيوب من داره فحملته ناعسة إلى البحر بعد أن شعر أن رائحة جسده بدأت تنتشر في المكان وفي يوم من الأيام ذهبت إلى المدينة لتشتري طعاماً وهي لا تملك (تلملمك) درهماً واحداً وتسولت رغيف الخبز وحين رأت النسوة جمالها الفتان وشعرها المسترسل حتى ظهرها شعرن بالغيرة الشديدة وطلبن منها أن تعطيهن ثمن الرغيف فأقسمت أنها لا تملك أي درهم فطلب منها النسوة شعرها مقابل الرغيف.. وبالفعل قامت النسوة بحلق شعرها بين أناتها وبكائها.. على ضياع زوجها وضياع شعرها وأنوثتها ظل أيوب ينتظرها على أحر من الجمر وقد شعر بأنها هجرته كما هجره كل البشر وأقسم أن يجلدها بالسياط إن هي عادت أو عادت إليه صحته وبكت ناعسة وخافت أن تعود لأيوب بعد أن حلقت شعر رأسها وتحسست ضفائرها فلم تجدها فجلست على شاطىء البحر تبكي وتحمل الرغيف وحين هجم الليل بكآبته ووحشته خافت وأخذت تجري إلى أيوب ظلت تبحث عن الرجل المريض الذي أتت به جثة هامدة يأكلها الدود فلم تجد سوى رجلاً صحيح البدن جميل الطلعة شاب تخجل العيون من النظر إليه ذكرها بشباب أيوب وسألته: يا عم هل رأيت رجلاً مريضاً كان يجلس هنا فيرد أيوب ذلك الشاب الذي أعطاه الله صحته مرة أخرى بعد أن صبر على ضياعها قائلاً لا والله يا عم معتقداً أنها رجل ولكن ناعسة ظلت تجوب الشاطىء ليلاً في ضوء القمر الساطع وتسأل من خلال دموعها عن أيوب الشاب الجالس والذي يرد كل مرة بالنفي ويضمر الشر في نفسه لزوجته التي هربت ولم تعد للآن ولكنه شعر بعطف غريب ناحية المرأة التي تسأل عن الرجل المريض.. ناداها.. يا عم.. قالت نعم.. قال ما اسم المريض الذي تسالين عنه.. قالت أيوب.. انتفض الرجل وشعر أن قلبه يقفز بين ضلوعه.. اقترب يا رجل.. اقتربت ناعسة.. قال اقترب أكثر.. اقتربت.. دقق في ملامحها عرفها.. إنها حبيبته ناعسة.. ناعسة.. أيوب.. ناعسة.. أيوب..وكانت النهاية السعيدة بأن عادت لأيوب صحته وقوة وحبيبته ناعسة وأمواله وأولاده وفوق كل هذا نمت ضفائر ناعسة من جديد ليسعد أيوب..كانت قصة ظلت تدوي في عقلي وفي سمعي وفي ليلي المظلم الكئيب.. ترى هل تعود شمسي تشرق ثانية في قلبي المعتم..؟!! ويرن صوتها الصبر طيب.. الصبر لك أحسن دوا للعاشقين والمغرمين وأهل الهوى.. سبع سنين يا أيوب تصلي على النبي..
 
أنشأ هذا الموقع ويدير تحريره الكاتب الأديب مجدى شلبى