قالوا عنها.. لازالت عذراء بنت بنوت كما قالت أمي رغم مرور العام الحادي والأربعين عليها وبرغم جمالها الأخَّاذ وفمها المرسوم كما العنقود ورقة شفتيها وعيون سود..أسرت ألف حبيب بمحبتها صارت قمراً يسهر في الليل ولا يغفو إلا حين ينام العشاق كانت تسكن في قرية "القابوطي" التابعة لمدينة بورسعيد أو الابنه الصغرى تقع ما بين مياه البحر وسماء صافية ومنزل خشبي أبسط من شجر البلوط النائم بين جنبات النهر.. قالوا أيضاً.. كانت تهوى حبيباً أجمل من كل الفتيان تمنحه حبات السكر حين يناديه البحر وترسل تنهيدات الأشواق مع الأمطار حين تأتي نوات الريح العاتية وتهددها بأن تسرق منها الروح.. والروح كانت تعني لديها حبيب العمر..وحين يناديه البحر يركب قاربه ويرحل فتنام حمامة تتوسل تضع المنديل الأخضر حول الرقبة من يسأل عنها.. تنكر.. تتنكر في زي الأموات يتلبسها العفريت الأحمر حين تدوي الريح العتيقة في شتاء أمشير.. لن تخرج من الدار أبداً حمامه إلا حين تنام الريح ويعود البحر إليها ويعطيها الغالب فتعود حمامة تخرج من عزلتها وتلقى بالمنديل الأخضر للريح وبكحل الجدة والمرود تتكحل فتزهو بربيع أخضر فوق الجسد المشوق يهتز ويتبخر ويعود لشفتيها فتضحك تقطر عشقاً وحلاوة وريق سكر تتقافز فرحاً تجري لحبيب العمر وتكبش بين يديها مياه البحر فيبتل الجلباب الأصفر وتطبق الزهور فوق شفاه يابسة يتعطر فيذوب الغائب يتمم عشقاً ويتمتم بين يديها كما العصفور ذات جناح أخضر قد ذاب الشوق والعمر فوق لهيب النار يتكسر..وفي المساء خطبوا حمامة للعربي فتحدث أبوه بلسان الفشر يقول: العربي بيكسب ألف جنيه في الشهر يصطاد أسماكاً وقروشاً وحوتاً.. أقسم بالله: العربي لا يبتل لباسه حين يعوم في البحر والشبكة بين يديه تصيد بالأمر والعربي سيبني بيتاً كالقصر تسكنه "حمامة" ست الحسن..وعند الفجر تودعه "حمامة" بين يديه تنام يديها كعصورٍ يهنأ بالعش ويهذي بالحمى ما عاد في صدري صبر..وتذوب حمامة خجلاً وشوقاً ويهل الفجر ويمر صباح السفر الأمل والثاني والعاشر.. ويضيع العربي بين أمواج البحر تبكي حمامة عندما يأتي الغروب وتسأل القوارب المسافرة والآتية والرجال والملاحين هل رأيتم العربي.. ويرد الصيادون في حزن سوف يأتي إن شاء الله..مرت الأيام وحمامة تجلس لازالت عند البحر بين شفتيها ذابت حبات السكر كالمر وعند العصر كانت المرآة المكسورة المعلقة على حائط جدتها لأول مرة تزيد إحساس ما في داخلها أيقظها.. أخبرها أن العربي قادم يحمل سمكاً يكفي للمهر.. سوف تخبره بالأحزان المحمولة في الصدر طوال الشهر.وعند العصر.. سمعت أصواتاً ورجالاً تسرع في الخطو وأبو العربي يلبس جلباباً أبيض في لون الشمع.. نظرت عند باب الدار وجدت تابوتاً ووروداً بيضاء كالفل والحنة.كانت للعربي قتلة اليهود بلا ذنب راحت حمامة في الغيبوبة فهبت عليها نوه أمشير وتركت جرحاً نافذاً بالفعل.. قامت حمامة من رقدتها ونظرت من النافذة تناجي العربي الماثل لعينيها في البحر.. كانت تفتح ذراعيها وتواجه الأمواج حين تناديها ولا تخرج إلا حين ينقذها الصيادون من الغرق واعتقد أبوها في السحر.. دار ولف على المشايخ والعرافين لعله يجد لابنته دواء.. لكن بلا جدوى قد طارت أحلام حمامة تبحث عن العربي في كل بحور الدنيا غير مصدقة أنه عاد في تابوت وينام في أعماق الأرض أصبح عظماً منثوراً يأكله الدود ومن يومها صارت حمامة أنثى تكبر ينقصها العقل.