أكون أو لا أكون

بين نسمات الخريف التي تهب على قلبي الأخضر من الحقول الرابضة حولي من كل مكان تذكرت المرأة الجزيرة أدبية فرنسا "مرجريت يورستار" تلك المرأة التي أطلق عليها الرئيس الفرنسي جاك شيراك المرأة الجزيرة التي تعشق الهدوء والسكنية بعيداً وحدها بلا إزعاج من الآخرين.. عشقت الطبيعة وعشقت حياتها.. مشاعر متباينة من الفرح والشجن والألم والأمل وأشياء أخرى تشكل نفسي بيد من عزيمة وأخرى من نار.. ألملم أوراقي كي أتقدم بها إلى القوى العاملة في أي مكان ولن أهتم بما يقوله الآخرون من حولي لا يعلم أحد ما اعتزمت عليه.. ماذا أفعل إذا قدر لي الفشل في حياتي الزوجية وإذا قدر لي الفشل في أن أكون أماً.. لابد أن هناك شيئاً سوف أنجح فيه مهما طالت مساحة البقعة السوداء التي تظلل حياتي..مرت الأيام وأنا أحيا في عزلة رهيبة وكأني أرتدي جلباباً بلا أكمام وبلا ياقة وبلا جيوب.. أتناول طعاماً بلا ملحٍ وبلا بهارات ولا صلصلة.. أحيا حياة باهتة إنني أنتظر الخلاص وأدور في فراغ لا نهائي يصيبني بالغثيان.. زوجي كان سلبياً حزيناً بعد أن بعدوه عن جنتهم الموعودة فاستكان يبحث عن نفسه بلا هوية واضحة المعالم وكلما مر يوم تناثرت الأمنيات..في شرفتي المطلة على الفراغ واللون الأخضر أغمضت عيني وسافرت إلى دنيا جميلة أهوى فيها كل نسمة هواء تداعب شعري المسترسل على ظهري ارتدي بنطلوني وبلوزتي وأحمل حقيبتي في خيلاء.. أحلم أنني امتلكت زمام أمري أفتح الحقيبة أعبث في أحمر الشفاه أمر على شفتي أنظر في مرآتي فأرى فارس أحلامي المرهق يعود مرة أخرى قوياً يكسر آهات اليأس بمعول الأمل..كان لابد أن أخطو خطوات جريئة في مجتمع مغلق المرأة فيه ضعيفة يحكمها الرجل بيد من حديد فالرجل دائماً في المجتمعات القبلية منذ القدم هو سيد القبيلة وحامي النساء فالحروب ما كانت تشتعل إلا طعماً في المرأة واغتصابها وتمر العصور والمرأة ينظرون إليها نفس النظرة الدونية فهم يعاملونها على أنها مخلوق أقل من الرجل خلقت من أجل متعته ومن جل إنجاب الأطفال والكنس والطبخ والسهر على خدمة الأسرة لكن أكثر من ذلك فإن طموحات المرأة تتوقف لذلك كانت المفاجأة كبيرة بالنسبة للرجال والنساء في العائلة الكبيرة أن تعمل زيزي موظفة تذهب في الصباح ترتاد السيارة إلى بلدة أخرى وتعود بعد الظهر تحمل في يد حقيبة وفي اليد الأخرى كيساً تضع فيه احتياجاتها من السوق لقد بات الحلم حقيقة ويصبح العمل خطوة من خطوات تحقيق الذات..ما أجمل أن يحيا الإنسان من أجل هدف يسعى إليه.. بين الحقول أسير.. أهمس إلى الزهر المتراقص فوق الأغصان.. أغمض جفوني أحادث الفراشات الحائرة فوق رأسي.. يااااه مشوار الحياة يتطلب منا مزيد من الصبر وقوة الإيمان أغلقت أذني عما استمع إليه من كلمات نقد كانت تجرحني أحياناً وتجعلني أحمل هموم الكون فوق رأسي لم تفلح في أن تصبح امرأة شاطرة في الدار وفي الغيط لم تفلح أن تنجب ولداً أو حتى بنتاً فذهبت إلى القرية المجاورة تسير أكثر من ثلاثة كيلو متر على قدميها لكي تعلم أطفال المدرسة ألف.. ياء.. وهل هذه وظيفة جتها خيبة أكتر ما هيه..كانت هناك قوة خفية تدفعني دفعاً للأمام سعادتي كانت أيضاً ًبلا حدود أن ألتقي بالتلاميذ الصغار.. بلون البراءة والخضار طفل لازال يحمل عماص الجفون ورائحة النوم تفوح من فمه الصغير وأسنانه الذي ينخرها السوس.. لا يعرف ما معنى فرشة أسنان ولا سندوتش يأكله ولا صابونة يغسل بها عينيه.. طفل طازج طزاجة اللبن المحلوب وعليك أن تشكله بين يديك. تقوم له.. أغسل عينيك ويديك بعد أن تستيقظ من النوم وقول لأمك تعطيك سندويتش حلاوة طحينية.. افعل كذا.. وكذا.. إن مسئولية التعليم وخاصة التعليم الابتدائي ما هي إلا مسئولية معلم يعشق الأطفال بعيداً عن حب المال يعشقهم لغاية سامية في نفسه لقد عشقت الأطفال في مدرسة "الزهايرة" فعشقوني جميعهم بلا استثناء المدرسون والتلاميذ وهيئة التدريس صباح وحسن وخليل وحفيظة وأحمد مطاوع.. أشخاص تتحرك من حولي تمسك بالطباشير وبالقلم الأحمر تعطي نجمات تضئ للعلم طريق وتعطي أصفاراً تقول لصاحبها لملم أوراقك واترك المدرسة لغيرك كي يتعلم...............ياسر..بمريلته القصيرة وجلبابه الطويل تحت المريلة وشعره الأسمر وعينه المشعة بالذكاء وشقاوته التي فاقت الحدود لكن كان معي شيئاً آخر تلميذ مطيع يحمل حقيبته القماش ويقول للأطفال في صوت عالي.. أبي مسافر للعراق وحين يعود سوف يشتري لي بدلة ضابط وبندقية..وكعادة المراهقين بعد أن وصل للمرحلة الإعدادية إزداد شقاوة وحدة ولم يعد أبيه وفي أحد الأيام ضربه أحد رفاق السوء بمطواة في ذراعه فأصبح معوقاً لا يقوى على العمل اليدوي رغم وسامته وشعره الحالك السواد ونسيته وبعد عدة سنوات وجدته يعود ليعمل معي أمين مكتبة في نفس المدرسة..
 
أنشأ هذا الموقع ويدير تحريره الكاتب الأديب مجدى شلبى