المكتبة .... عالمى الخاص

داخل جدران حجرة قديمة في المدرسة كانت جلستي المفضلة بين بعض الكتب القديمة المربوطة بدوبارة غليظة تشبه الحبل وموضوع داخل دولاب من الصاج المنتشر في المصالح الحكومية.. كان الدولاب عهدتي بما فيه من كتب بمعنى أن لو ضاع من العهدة كتاب واحد أتحمل ثمنه فحافظت على الكتب لا من أجل الخوف من المال ولكن لأني وجدتها كتباً كالدر المتلألئ فرحت أصول وأجول بين صفحاتها كلما وجدت حصة فاضية فكانت الأفكار والأشعار تتراقص أمامي فأسجلها بدقة كأنها شخوص تتحرك وتتكلم وتتأملم فصارت بيننا صداقة حميمة من نوع جديد وصار أبطال كل قصة يصافحوني كلما تقابلت معهم على الورق ويسألون عني إذا ما تواريت عنهم قليلاً.. حبي للمكتبة يزداد فنسيت مشاكلي تماماً ووحدتي وأحزاني كلها (كلما) وسألت عني ناظرة المدرسة أخبروها أني في المكتبة فثارت وهاجت وافتعلت الخناقة تلو الأخرى قائلة في عصبية إنتي مدرسة ولا أمينة مكتبة استوقفتني الكلمة أمينه لماذا لا أكون أمينة مكتبة.. فأقرأ على راحتي وأعلم الصغار كيف يكونوا مثقفين. إن القرية ينقصها مكتبة يقرأ فيها الأطفال ففي بداية الثمانينات كانت المدارس التي بها مكتبات قديمة متهالكة في المدينة أما القرى فلا توجد بها أي مكتبة..ناقشت فكرة أن أصبح أمينة وبالفعل تقدمت بطلب للإدارة للحصول على موافقة المدير العام وقد ضحك الرجل كثيراً على كلماتي إيماناً مني بدور المكتبة في تخريج العباقرة وتعجب سائلاً هو فيه واحدة ست بتحب القراءة لم أرد ولم أعلق وحملت الموافقة لأبدأ فكرتي بين جدران الحجرة المتهالكة وقد كان لي ما أريد وبمعاونة ناظر جديد متفهم جاء من قرية بعيدة لازلت أتذكره.. اسمه" عبد الغفار سبع" طلبت منه أن يصنع لي رفوفاً وأدراجاً ونبدأ بحملة تبرعات كل من يمتلك كتاب فليتبرع به إلى مكتبة المدرسة..بدأت الفكرة تتحول إلى واقع ملموس ارفف خشبية مرصوص عليها بعضد المجلات القديمة ومنضدة وكرسي ولافتة على الحجرة مكتوب عليها من المكتبة يخرج العلماء..فصدق التلاميذ العبارة وتدفعوا في شوق لمعرفة غرفة الأسرار التي كانت في يوم من الأيام حجرة الفئران التي كان الطلبة يحبسون بداخلها كنوع من العقاب إذا نسي أحدهم أن يكتب الواجب أو قصر في استذكار الدروس..سعادتي بالمكتبة كانت تفوق الوصف والحدود.. بعد انصراف الطلبة في الفسحة أغلق بابها دوني وأخلو إلى نفسي أهمس إلى الكلمات وتعطيني الأمان فأغمض عيني وأسبح في ملكوت السماوات وأتخيل أني أميرة الأحلام في بلاد الأقزام.. تسألني أميرة السحر شبيك لبيك كل العالم ملك يديك ماذا تطلبين أيتها الملكة ياه ملكة.. تقول: نعم أنتي ملكة متوجه لأنكي تعشقين القراءة وتعشقين الأطفال آآآه لقد ضغطت على الجرح النافذ بين ضلوعي حين قلتي الأطفال.. تصوري رغم عشقي لهم ودموعي من أجلهم لو وجدت أحدهم يبكي ومع ذلك لم يمنحني الله طفلاً قالت: ماذا لو حققت لكي هذه الأمنية قلت إن هذه الأماني لا تحتاج إلا إلى قدرة الله فقط فلا سحر ولا مال ولا جاه ضحكت أميرة السحر: اطلبي لن تخسري شيئاً جربي قلت: أتمنى طفلاً حتى لو كان في حجم عقلة الإصبع الذي قرأت عنه كثيراً قالت لكي ما تريدي أيتها الملكة حملتني أحلامي لبلاد بعيدة كل من فيها ملائكة ترفل في ملابس ملونة ويمسكون بمراوح من ريش نعام تلتف حول سريري المزركش بالورود وخيوط الذهب وإبريق من الفخار تتدلى منه الثريات ومربوط بحزام أخضر بلون الزرع وصينية من النحاس الأصفر بها حبوب الخير القمح والأرز والذرة والعدس والحلبة والغلة أما أنا فكنت أشعر بالضعف والهزال بعد الولادة فأرسلت لي امه نجيبه فرخة كبيرة محمرة في السمن وشوربة ساخنة مع كلمات رقيقة أرسلتها مع إحدى نساء الصبيان.. "كلي يا بت إللي مكلتهوش في أساسك تاكليه في نفاسك" سمعت صوت الصغير يوأوأ إلى جواري فانتابتني قشعريرة وأنا أشعر باللبن الجاري يشق صدري فأحمله لكي يرضع وأقول للعالم ها أنا.. هاأنا ذا.. أصبح أماً.. لكني ما أن أحمل وليدي حتى أصاب بخيبة أمل تملكتني إنه عقلة صباع.. ماذا أقول لزوجي.. ماذا يقول الناس عني في القرية.. وأمه نجيبه ماذا تفعل..؟!! لقد أخبروها أني وضعت مولوداً ذكراً لكنهم لم يخبروها بخيبتي الكبيرة أنه عقلة إصبع ظللت أبكي في ألم شديد جاء صوت عم حامد الجهوري إيه يا أبله زيزي هتباتي هنا ولا إيه..؟؟ خرجت من عالمي الكبير إلى عالمي الصغير من عالم الأحلام إلى عالم الواقع المرير.. أغلقت كتاب الأحلام وعالم الأقزام ووضعت المسطرة على فصل عقلة الصباع وأخرجت المفتاح من الحقيبة وأغلقت الباب.. وكأني أترك ثروة ضخمة من المال..تعجب عم حامد وأمطرني بوابل من السخرية.. فعلى الرغم إنه عامل إلا أن صوته العالي وشخصيته أعطياه وضعاً خاصاً فأصبح مركزاً من مراكز القوة في المدرسة وقد اكتسب شهرته من البوفيه الذي يصنع فيه الشاي والحلبة فكل من يشعر من صداع من الفصل صرخ مستغيثاً شاي يا عم حامد..ذهبت إلى منزلي وفي رأسي تتخبط الأفكار وتذكرت الحلم الذي تراقص أمامي اليوم.. وتخيلت أمه نجيبه وهي تصعد سلالم الشقة زاحفة على رجليها لترى حفيدها الذكر وتفرح به بعد أن رفضت النسوة أن تحمله إليها.. ووجدت نفسي وأنا أعطيها عقلة الإصبع الذي وضعته بعد سنوات.. فأراها تقذف به إلى الفئران لكي تأكله حياً.. ضحكت.. وأنا أفتح باب الشقة فوجدت قطة فضحكت مرة أخرى وتذكرت الفأر الذي أكل عقلة الصباع..
 
أنشأ هذا الموقع ويدير تحريره الكاتب الأديب مجدى شلبى