عزيزة ومحمود

كثيراً ما كانت السيارة النص نقل التي تقلني إلى مدرستي في قرية الزهايرة تختفي بلا سبب وبلا مبرر وبلا سبب واضح للغياب اللهم إذا أمطرت الدنيا وكثر الوحل المتراكم على الطريق الزراعي مما يمنع الحركة من القرية وإليها ولا أجد مفراً إلا السير في هذه البركة الموحلة مسافة 2كيلو متر في ظروف غاية في التعب والصعوبة أحياناً كنت أدندن بأغنية عاطفية لأم كلثوم أو عبد الحليم وأحياناً أخرى أكتب قصيدة شعر أنسلخ بها عن العالم بأسره فالسير بين الحقول متعة كبيرة فالزرع صديق وفيَّ يستمع في صمت لا يتكلم أحكي له عن أحزاني فيهتز حزناً وأحكي له عن أحلامي فيرهف السمع كانت المسافة تطول بصعوبة الطريق فأدقق النظر لكل شيء من حولي حتى المصرف تلك البركة الراكدة بمياه الترعة والذي يطلقون عليه اسم الجربوع أرى ألوان قوس قزح تبدوا طافية عليه.. القاذورات تنتشر حوله بفعل قبيح من البشر.. ألوان مختلفة من مخلفات الإنسان. لفت نظري أثناء السير شيء غامض جلباب نسائي بلون ريفي رأيته مشهوراً بين نساء قريتي والقرى المجاورة. إنه شعبان بائع القماش المتجول يحمل بقجته فوق ظهره ويتجول بين الدور في الريف.. الجلباب ملفوف وكأن به شيئاً تعجبت وسألت نفسي ترى ما هذا الجلباب وما هذا الشيء الملفوف بداخله..؟؟‍‍ومن الذي ألقى به ليلاً في هذا المكان الموحش. سرقتني الأسئلة وحوارات النفس جعلتني أجد نفسي وجهاً لوجه أمام المدرسة كل الأشياء مغسولة زاهية ما عدا فناء المدرسة فقد امتلأ بالمياه.. فرح التلاميذ وتغيبوا من المدرسة ومن جاء فرح أكثر لاختفاء الطابور.. مر اليوم كئيباً مملاً.. زيطة وهيصة فالمدرسون هم أيضاً منحهم الشتاء إجازة إجبارية لانقطاع الكهرباء والمواصلات.. الفسحة هي الأخرى ألغيت فخرجنا في شبه مظاهرة.. الجرس ضرب يا شيخ العرب وكأننا انتصرنا في أحد المواقع الهامة وهذا ما يفسر لنا ظاهرة تسرب الطلبة من المدارس وخاصة الفتيات لعدم وجود وسائل جذب بها ضرب وعنف وعقد من المدرسين عن طريق الدروس الخصوصية وعقد أخرى من أولياء الأمور الذين اعتبروا المدرسة "وسيَّه" تعلم أبناءهم وتكسيهم وتؤكلهم فيحدث المتوقع الهروب والتسرب فلا ولي أمر يصرف ولا المدرس يتنازل عن الدرس الخصوصي حتى مقابل أي شيء بيض.. فراخ.. عسل...في طريقي للعودة سيراً على الأقدام أيضاً شعرت بالتعب والإرهاق ظللت أتباطأ أنظر للأمام أو الخلف لعي أجد سيارة تنقلني لقريتي وبينما أنا أنظر إذا بجمع من النساء يلتفون ويتحدثون بصوت عالٍ: هي مفيش غيرها.. لا حول ولا قوة إلا بالله. دى ولد يا أم السعد.. يا خيبة يا ختي ع البنات ها تعمل إيه.. كانت ها توديه فين..؟!!اقتربت شيئاً فشيئاً من الجربوع ذلك المصرف الصغير فوجدت الجلباب الذي رأيته صباحاً وتظهر من داخله رأس جنين ميت وكل من له رأي أفتى به للاستدلال على صاحبه هذا الجنين لتكون فضيحتها بجلاجل لم يسألوا من أبوه..؟!! ولكن سألوا من تكون الفاجرة التي فعلت هذه الجريمة الشنعاء.. قضية غاية في الخطورة أن يتهموا المرأة وحدها دون الرجل وتظل المرأة حاملة وصمة العار ما بقيت من حياتها وعلى الرغم من أن الفاعل معروف إلا أن المجتمع يتسامح ويصمت ويصب جام غضبه على الفتاة وآه حين ينتقمون منها رجماً بالكلمات وأحياناً بالفعل وكثيراً بالحكم عليها أن تظل عاهرة طوال الحياة.. انصرفت إلى حال سبيلي وهذا المنظر يلازمني ويلح في تكرار داخل عقلي الباطن.. ما ذنب تلك الفتاة لقد أحبت وأعطت حبيبها كل شيء لقد ضحك عليها أوهمها بأنها الأولى والأخيرة في حياته وأنه لو لم يفعل معها هذا الشيء سوف يموت وينتحر وتصدقه الفتاة وتظل تعطيه بلا حساب حتى يمل منها ويتهرب من لقاءاتها وإذا شعرت بالخطر أخبرته بالكارثة إتهمهما في شرفها وفي أخلاقها قائلاً إيش عرفني إني أبوه وتدور الفتاة تبحث عن حل لأزمتها من يخرج بها من تلك الكارثة المميته.. بلا جدوى ويتحرك الجنين فتتأجج الكلمات.. تفور.. تغلي الفتاة كالبركان.. ماذا تقول..؟!! وكيف يتقبل المجتمع عارها.. آفة ولعنة تصيب المجتمعات الشرقية من هنا جاء كره الأنثى ولعي أسجل هنا حادثة لأب قتل أربعة من بناته وشروع في قتل اثنتين في ليل رمضان من عام2004.. الرجل صعيدي يتمنى أن يكون المولود ذكراً لكن الزوجة أتت له بسبع بنات فثارت ثورته وعلى الرغم أنه قتل البنات الأربعة بلا ذنب إلا أنه تنبأ بالعار وخاف منه وظل الخوف يضغط على أعصابه بشده حتى انهار مستسلماً لرغبته الجنونية في التخلص منهن بالذبح..حمدت الله على أني لم أنجب بنتاً ولا ولداً ووضعت رأسي كي أنام لكن كوابيس أحلامي لاحقتني في جزيرة مذبوحة الأحلام ضائعة الوطن بلا هوية مكسورة النفس والخاطر سمعت آذان الفجر كما سمعت آذان العشاء استيقظت متعبة... كوابيس النوم ظهرت بوضوح على العينين المتعبتين فأسبلت الجفون..لم أتناول طعامي كالعادة وشقيت بقدمي قلب الحقول ودققت النظر لعلي أجد جنيناً مثل جنين الأمس وفي المدرسة كانت المدرسات يتحدثن في همس عما حدث بالأمس قالت أبله صباح المنجي: حماتي قالت إنها عارفه إللي عاملت العملة دي.. ردت النسوة في صوت واحد.. مين هيه يا ترى زمان حماتك عارفه ماهي دايه مولدة نسوان البلد على إيديها. قالت صباح في مكر: الله أعلم ردت عليها إيمان الفقي في بجاحة: آه منكم يا فلاحين الخبث والمكر صفات ثابته فيكم أعوذ بالله.. وما أن سكتت إيمان حتى بادرتها ليلى رمضان: اسملا عليكم يا بتوع البندر البنت من دول تبقى حامل وتضحك على الراجل من دول وتتجوزه وتكتب العيل إللي ولدته على اسمه.. آل البندر آل.. إللي إللي البت فيه بتحط أبيض وأحمر وأخضر وهيه لسه ما طلعتشي من البيضة.. وتدخلت قائلة: الموضوع أخطر من كده بكتير.. البنت عندنا تعرف الصح من الغلط وتعمل ألف حساب لأي غلطة تقع فيها..؟!! قالت صباح والله أمي كل ليلة تتحسر على البنات إللي بتضيع باسم الحب.. واحده حبت واحد وفض يتحدلب لغاية ما نال غرضه وبعد كده خلاص.. سبها وهرب.. كلام.. شائعة.. فتوى مجتمع فاضي.. لا شغلة ولا مشغلة.. حصة فاضية على حصة فيها شغل ويعدي النهار ككل نهار..جدتي أم علي كانت واعية ومحنكة دايماً تقولي خلي الراجل على نار طول ما إنتي لسه على البر سيبيه يفكر فيكي ليل ونهار ويصبح مشغول البال علشان يجري وراكي بالمشوار.. وده طبعاً في الحلال لكن الحرام ربنا يبعدك عنه..وفي الدار كان لابد أن أجلس جلسة نسائية في حجرة الفرن في الشتاء والقش والموقد والكانون ما أحلاها عيشة الفلاح.. براح في براح.. الجلسة كانت نسائية بحته ضحكت النساء الصغيرات زوجات الأبناء و النساء الكبيرات أمهات الأبناء أما رئيسة الجلسة أمه نجيبه كالعادة.. افتتحت الجلسة كحاجب المحكمة ونادت أمه نجيبه إيه إللي حصل عند الجربوع إللي بين بلدنا والزهايرة.. قالت في شماتة لزوجة ابنها البكري الذي بكرت بأنثى: بنات آخر زمن ربنا يستر على ولايانا.. مصمصة النسوة قائلات في صوت واحد ياعيني ع الولايا.. قالت أمه نجيبه في لحظة حاسمة كمن أطلقت الحكم بلا استئناف.. دول عايزين ضرب النار صايب يا خايبه يا اختي ع البنات وقال إيه البنت زي الولد مهيش كمالة عدد دي كمالة عدد ونص كمان الله يرحمك يا أمه خضرة كانت يوم ميلاد البنت تصبح جنازة في الدار. استمعت إلى جنازة من اللوم والعتاب والسباب للبنات وإللي خلفوا البنات وكانت الكلمات تنزل على أذني كنقط من نار حامية الوطيس فتزلزلني وتأججني وأحمد الله على أني لم أنجب إناثاً في هذا الجو المشحون بالعصبية للذكور لكن أين المنطق وأين الرأي الخاص والتأثير في مجتمع البسطاء قلت بعد معاناة.. على فكره يا أمه نجيبه البنت هنا مظلومة.. نظرت أمه نجيبه نظره كلها عتاب والشرر يتطاير من عينها.. لأن هذه الكلمة تعني أنها سوف تفقد تحديها للمرأة التي تنجب إناثاً في الدار قالت.. وقد عادت إليها نبرتها الشرسة: إنتم عندكم في المطرية البنات حلوين أمال..؟!! ملايكة.. يااختي اكسري للبنت ضلع يطلع لها أربعة وعشرين.. كانت كلماتها تشتد عنفاً وشراسة شعرت بأني على أعتاب مشكلة مستعصية فالصدام معها يعني مشكلة كبيرة أولها أني سأفتقد جلسة البراني الدافئة واجتماع النسوة ومشاركتهن حديث المودة والحب لكني اعتزمت أن أفضفض مهما كان الأمر قلت: ع فكرة البنت هنا لو اتعلمت ودخلت الجامعة هتعرف تحافظ ع نفسها لكن أنا دايما بسمعك تقولي أدام البنات إللي في ابتدائي وإعدادي البنات إللي بيتعلموا وبيروحوا السنبلاوين بيحبلوا وأهلهم بيقتلوهم فانصرفت البنات عن التعليم وفكروا في الجواز والعريس وخابوا في المدارس انتفضت المرأة واقفة تيقنت أن قرار طلاقي من الدار لازال فكرة قابلة للنقاش في رأسها مهما كان وضعي إن شاء الله أكون وزيرة.. شوحت المرأة بيديها لتعلن عن انفضاض الجلسة قائلة يالله يا مرة إنتي وهيه كل واحده تشوف وراها إيه أحسن مرات عادل هتبووظ أخلاقكم يالله يا اختي اطلعي على فوق بدال ما تخيبي في المدارس.. لملمت أشلائي المبعثرة من عجرفتها وإهانتي الغير منتظرة وأخرجت سلسة مفاتيحي وقبضت على مفتاح الشقة وتساءلت في نفسي ترى ماذا تدبر لي أمه نجيبه بعد هذه المواجهة الساخنة وهل تستطيع أن تنزعني بعد أن ذرعت جذوري في هذه الأرض الطيبة وأصبحت جزءاً منها رائحتها تحييني.. نسيمها يحملني إلى أنهار أحلامي فأسبح فيها.. وفي شقتي انقطع التيار الكهربي كالعادة.. فانزلقت قدمي ووقعت بسبب تسرب مياه الثلاجة على الأرض ورغم آلامي النفسية والجسدية أوقدت لمبة الجاز واحضرت أوراقي لأكتب أجزائي مرة أخرى في مجتمع لم ولن يرحم المرأة.. ظللت ساهرة أعافر أحزاني بجوار الزوج المرهق من عناء العمل..وفي الصباح كالعادة توجهت إلى الطريق الزراعي فوجدت سيارة شرطة وضباط وعساكر.. انقبض قلبي.. استعذت بالله.. الموضوع كبير.. فيه إيه يا جماعة.. الصمت يخيم على المكان.. دموع بعض النسوة.. وحده مقتولة ومرمية في أرض الأرز.. مين يا ترى.. لم نعرف.. دارت الدنيا بضحية جديدة امرأة أم فتاة في ريعان الشباب تقتلها آيات التخلف وأحزاب الرجعية ماذا فعلت..؟؟!! هموم الدنيا فوق رأس "هنادي" طه حسين تعود قتلها الخال لأنها جاءت له بالعار.. ملأ يديه بالدم وحين سألوه عنها.. قال: أخذها الوبا كل يوم على صفحات الجرائد نقرأ قتلها أبوها لسوء سلوكها وجودها مقتوله بعد اكتشاف حملها السفاح حوادث تقهر البنات.. وتربي لديهم عقدة الخوف من الحب وإمكانية التعرف على فتى الأحلام فتصاب بالرعب والهلع..خرجت من صمتي على صوت إحداهن.. دي بنت غريبة من بلد بعيده.. اسمها "عزيزة" كانت حامل وبتقول جوزها في العراق والظاهر أهلها عرفوا فموتوها وموتوا الواد إللي ولدته.. انصرفت إلى حال سبيلي.. وبعد أسبوع قرأت الحادثة وتفاصيلها كانت عزيزة تعشق أحد شباب قريتها ففعل فعلته وسافر العراق.. والتفاصيل كانت مكتوبة في كيستها المربوطة بسير السنتيان البفته والإمضاء كانت محمود..
 
أنشأ هذا الموقع ويدير تحريره الكاتب الأديب مجدى شلبى