وطنية

امرأة في العقد الثالث جميلة من نوع هادئ ثائرة دائماً صوتها عالي لكن ألفة نشأت بيني وبينها كلما مررت عليها وهي تجلس أمام بيتها لم أرها يوماً تركب عربة كارو ذاهبة للغيط كمعظم نساء القرية المشاركات أزواجهن في العمل وأجمل منظر ممكن أن تراه أن تركب امرأة بجوار زوجها وأولادها هذه العربة وقد حزمت المرأة طعامها في قفص أو سلال وقلة من الميه وانطلقت إلى حال سبيلها باحثة عن رزقها ورزق أولادها وحلمها بمستقبل مشرق تغمره السعادة، وتذكرني هذه المرأة المكافحة بأخرى تتحدث بالموبايل في النادي وتفتعل خناقة كبيرة مع زوجها البيه الذي يتاجر بأموال الغلابة لأنه لم يحجز لها ولأولادها شاليه في مارينا وأخبرته بأن أعصابها تحترق كل دقيقة لأن "مودي ، وتوني ، وكوكي" بقالهم يومين وهي هنا في التكييف.. أف .. شيء يجن.. أعود مرة أخرى لوطنية التي أثرتني شخصيتها وكأنني أمام مقاتل من نوع جديد، فهي بالفعل لا تذهب إلى الغيط ولكنها شاطرة في إدارة أعمال منزلها ما أن أمر عليها حتى أجدها تغزل القطن أو تقطع البرسيم للطيور المتجمعة حولها.. أو تغربل الأرز أو تنقي الغلة وتغسلها أو تقطف ملوخية المهم هيه سيدة وطنية متحمسة لأن تشارك المجتمع في طريق التقدم ومنتجاتها اليدوية وفي يوم السوق تجدها جمعت أعمال الأسبوع وها هي تجني الثمار وتضع كل شيء أمامها علشان تبيعه من جبنه وزبد، وبط وفراخ وأرز وبصل وثوم، وفي آخر اليوم تعود محملة باللحم والفاكهة وملاية لسريرها في لون البرتقال وحذاء بلاستيك يقيها من برد الشتاء وعدة أساور فالصو تلبسهم حين تدعى لفرح في القرية تطورت النظرة بيننا إلى سلام، فصداقه، فشراء، فمحبة وأسرار كلما وجدت نفسي أعود من العمل جلست معها أشاركها الحديث وأتعلم منها كيف تقضي وقتها فلا تصرخ مثل بعضهن قائلة أعمل إيه..؟؟!! حياتي فراغ إن الفراغ يكاد يسيطر على أعصابي.. أي فراغ أيتها المرأة التي تعانيه..!! إن المرأة هي التي تخلق الفراغ وهي التي تخلق العمل.. وعلى فكرة أهم مشكلة تعانى منها المرأة هي أن تشعر بالوحدة التي يخلفها الفراغ فتبدأ في خلق المشاكل مع زوجها لأنها لا تجده وهي تعلم أنه يعمل فلماذا لا تعمل هي سألت وطنية سموكي وطنية ليه..؟!! قالت في فخر عشان أبويا مات 1956 فدائي لما الإنجليز كانوا محتلين بورسعيد شعرت أني اقتربت منها أكثر فقلت إنتي منين..؟!! قالت: من العصافرة.. العصافرة.. يعني جنب المطرية قلت في دهشة.. قالت في ثقة: طبعاً ما إحنا معارف قديمة وأنا أعرف كل إخواتك وأبوكي كان إمام مسجدنا وقارئنا المفضل للقرآن.. انصرفت، صارت صداقة قوية وبلديات وهي امرأة تستحق الصداقة بالفعل، سألتها وأين زوجك قالت مسافر السعودية، وولادك..؟؟!! قالت معاه.. قلت لماذا..؟!! قالت: لأنه متزوج وليه بره، قلت وإنتي..؟!! قالت خلفتهم وخلصت مأموريتي.. إزاي.. قالت من خلال دموعها.. بعد موت أبويا بعد ولادتي بسنه اترملت أمي علي ورفضت كل الخطاب والعرسان رغم إن عمرها ما كنشي حصل عشرين وخدتني في حضنها وقالت بنتي وخلاص.. وقاست المرار عشان تربيني، واشتغلت فراشة في مدرسة فجتني عقدة كل ما كنت بشوفها بتمسح الحمامات إللي الولاد كانوا بيدخلوها وقلت لازم أساعدها خصوصاً إن صحتها كانت كل مادى في النازل، وفعلاً كنت بقوم بعملها ولما ماتت ثبتوني مكانها وعشت الحياة وفي يوم جه لمدرسة العصافرة أستاذ جديد كان شكله حلو قوي، وكان عنده ييجي أربعين سنه وأنا مكنتش تميت عشرين، ومع الأيام كنت بعمل له شاي وقهوة كانت نظراته مش مريحه لكن كنت حبيبته وهو كمان حسيت إنه بيلاحقني في الرايحة والجاية وسألت نفسي معقوله يا وطنية الأستاذ علاء، هيحبك إنتي.. وإيه يعني.. ياما ملوك اتجوزوا جواري.. وبالفعل لاقيت حضرة الناظر بيقولي إيه رأيك يا وطنية.. قلت في إيه..؟!! قالي الأستاذ علاء عايز يتجوزك.. قلت: إللي تشوفه يا حضرة الناظر قال: الراجل طيب بس هتتجوزي غريبة في بلد فلاحين جنب السنبلاوين بلده وهيقعدك من الشغل.. فرحت فرحة ملهاش أول ولا آخر وروحت بورسعيد اشتريت عبايات وقمصان نوم وصيني وأخذت فستان أبيض خيطته أم هاشم بنت عمي وحطت عليه خرج النجف والترتر ورسمت عليه عصافير بالخيط المقصف ويوم الفرح جت عربية خدتني أنا وولاد خالتي وعمي وكنت زي القمر، ومخبيش عليكي كنت بحبه قوي وكان هو كمان بيقولي إنه عمره ما حب ولا هيحب حد بعدي.. وجبنا هنا في دار أبوه الني وفرش ليه أوضة حلوه قوي وعشت معاه أجمل أيام عمري وحبلت في أول يوم بعد شهر نفسي غمت عليه وجتني قرفة ورجعت وداني للدكتور قال المدام حامل فرح فرحة ملهاش أول ولا آخر وجبت أول عيل وسافر السعودية ورجع بعد ست اشهر حبلت تاني وجبت تاني عيل بقوا اتنين وكانوا نور عنيه وبعد خمس سنين من الجواز الكبير أيمن كان عنده أربع سنين وتامر ثلاث سنين في يوم كنت في السوق قال نفسي في كوارع نزلت نضفتهم وجبتهم وطبختهم سألت الجيران عن العيال قالوا الأستاذ علاء لبسهم وخدهم، خدهم فين مش عارفه.. قعدت في الشارع ألطم وأشق هدومي وأنتف في شعر راسي يوم واتنين وثلاثة ولاد الحلال قالوا الحكاية علاء جوزك متجوز بقالوا خمستاشر سنة من البلد ومخلفشي وهيه معاه في السعودية واتفق معاها إنه هيتجوز واحده على قد حالها تخلف وياخدوا العيال منها وهيه كانت الساذجة إللي مضحوك عليها.. وسكت ماذا أفعل. قالوا إرفعي عليه قضية قلت منين وأنا ولا حول لي ولا قوة ولا وظيفة ولا أهل ولا مال ومرت ألأيام والسنين بيقولوا أيمن في الثانوية وتامر في تانية ثانوية وعز إيه..!! يا ما شاء الله قلت أضحي وخلاص وكفاية حسهم في الدنيا وآهو كل سنه بشوفهم وخلاص صحيح نسيوني.. وبيقولولي يا وطنية وساعات تامر بيجبر بخاطري وبيقولي يا ماما وطنية وآهي آيام سمعت حكايتها وابتلعت دموعي هي أم بلا أولاد والأخرى امرأة اشترت أولاد هل وطنية سعيدة بحياتها طبعاً والدليل حبها للحياة ورضاها بالواقع والمكتوب..

 
أنشأ هذا الموقع ويدير تحريره الكاتب الأديب مجدى شلبى