برغم أني تحولت بقدرة قادر إلى فلاحة نشطة تستيقظ عند الفجر وتجلس إلى الفرن وتجر العيش الساخن وتغسل مواعين الدار المغموسة بالهباب الأسود إلا أن الزمن لا يريد أن ينعدل معي.. ابتسمت للحياة التي أضحت بطعم الصبار لعلها تضحك لي هي الأخرى لكن بلا جدوى فإنها دائماً تدير لي ظهرها.. أحببت الجميع لكي أعيش وأكون أسرة وأنسى الماضي لكن ها هو الوجه التعس يكشر عن أنيابه فلا بادرة للأمل في أن أحمل طفلاً تأنس به وحشتي في القرية رغم مرور عام كامل من الزواج والوحدة.. بكيت كثيراً وجف حلقي من طعم المرار ومع الأيام فقدت حماسي للعمل داخل الدار ولم أثبت كفاءة تذكر وتحولت معاملة أمه نجيبة مرة أخرى من الطيبة إلى الشراسة ومن الأبيض إلى الأسود ومن البشاشة إلى التكشير لم أسأل هذه المرة عن سبب التعاسة فالسبب معروف وهو أني لم أنجب لها طفلاً فراحت تلوح من جديد بأن الخيبة التي أتى بها ابنها لابد أن تنزاح.. قرأت عينها وتحملت قسوتها وتذكرت حنان أمي فساءت حالتي النفسية والصحية ومرة أخرى قررت الاعتصام داخل شقتي في الدور العلوي ولن أنزل للدار الكبيرة مرة أخرى حتى لو يبست أعضائي من الجوع.. زوجي لازال يعمل لا يشعر بما أعانيه لا يسألني عن أحوال العائلة ولا أحوال أمه نجيبه كان يأتي بطعام المدينة فاحتفظ به داخل مطبخي لليوم التالي لكي لا أشعر بالجوع.دارت بي الأيام دورتها في هم وضيق وكبت وحلم خائب وأمل يضيع من أجل طفل ويمر عام آخر.. وأعلن الانفصال عن أرض الأحلام أقصد أرض الدار.. إنها الأمل لكل فتاة تريد الاستقرار والاطمئنان حين يطل عليها طفل يبكي ويرن صوته في فضاء الدار يتشبث بذيل جلباب أمه نجيبه ليعلن عن استمرار زواج أمه من أبيه من حقها الآن أن تشتمه وتضربه وتدعي عليه وأمه نجيبه تدعي عليها هي لوحدها أما هذا الصغير فهو امتداد لأبيه يحمي أرضه حين يموت الجد ويصبح الأب قعيد الدار..من حق أمه نجيبه أن تنتظر المرأة حين تلد على نار وتسأل في لهفة عن نوع المولود فإن كان ذكراً حملته عارياً في جلبابها وكأنها وجدت كنزاً يطفح بالذهب والفضة وجرت إلى العمدة الكبير ليفرح مثلها ويمنحها الحلاوة والحلاوة عادةً ما تكون عشرة جنيهات تشتري بها ملبس وشيكولاته وفاندام طبعاً غير الفراخ الشمرت البلدي التي تذبح لنفاس الوالدة.. أما لو سألت وأخبروها أن المولود أنثى أشاحت بيديها في هم تاركة المكان قائلة في عصبية تروح لأمها تنفسها فتصاب الوالدة بالاكتئاب وكإنها عملت عملة لا ذنب لها فيها ولا ناقة ولا جمل فالأمر أمر الله والاستسلام للأمر الواقع إيمان فما بالك بالمرأة التي تزوجت في الدار وتبقى عاقراً لا تنجب إن مثل هذه المرأة موتها أحسن أو رحيلها فهي مثل الشجرة التي لا تطرح اجتثاثها من الأرض هو الحل الوحيد للغيظ الذي يملأ صدور أصحاب المصالح في الدار.وانتشرت أخباري بين نساء القرية "زيزي" لا تنجب.. لا حول ولا قوة إلا بالله الحلو ميكملش وماذا أفعل..؟؟ وما هو الحل وكيف أحتفظ بحياتي بهذا الجو المفعم بالعاطفة والإنجاب والترقب والخوف والرعب من انتظار المجهول.. كتبي ومصباحي وأوراقي وقلمي وطهر ذاتي وإيماني المطلق بالقسمة والمقدر والمكتوب.. وبين دموعي التي تهب في عاصفة بين الحين والآخر أسجل اعترافي بأني في القرية افتقدت الأنس والمسامرة والأصدقاء وقد كان أملي في إنجاب طفل هو الخروج مرة أخرى إلى ذاتي المغلقة باليأس كنت في كثير من الأحيان استرق النظر إلى الفضاء الواسع والممتد إلى ما لا نهاية وهذه المساحات الكبيرة من اللون الأخضر كانت تسرق روحي إليها بلا شعور مني وأظل أستعيد قصص من سبقوني زينب هيكل ومرام يوسف إدريس ونداهة نجيب محفوظ.. شيء عجيب أن أصبح قصة في سجل هؤلاء إن ارتباط الريف في كتابات الأدباء يفجر لديهم طاقات كامنة كانت مختبئة بين طيات النفس وكان الحل الوحيد أن أجعل لي قصة أنا الأخرى تشغلني وأدخل بين طياتها.. من حين لآخر وأنسى الدار وعاداتها وتقاليدها وأغانيها المملة التي تتغنى بها النسوة بمناسبة وبدون مناسبة "لما قالوا دا ولد.. انشد ظهري وانسند………"" لما قالوا دا ولد…. علوا سقف الدار عليه وجابو لي البيض وعايم جوه جاتوه ومهلبية.. ولما قالوا دي بنيه….. هدوا سقف الدار عليه وجابوا لي البيض وعايم وبدال السمن ميه……" لقد تعمدت النسوة في الدار أن تشعرني بالنقص في كل لحظة تمر وبرغم أني اختفيت عن كل العيون إلا إن المشاحنات بدأت تأخذ طابع الحدة ويقرر الرجال قبل النساء الانفصال الكبير وهذا يعني القسمة بمعنى أن يعزلوا زوجي بعيداً عن أرضه وكيانه ويصدر فرماناً بمنعي من النزول إلى الجنة المدعوة وتحدد إقامتي داخل شقتي فلا نزول ولا طلوع وكانت الصدمة الحقيقية والأولى في حياة زوجي فالقسمة معناها الغربة والتشرد النفسي بالنسبة للرجل في القرية الصغيرة.. عداوة شديدة تصاب بها كل أفراد العائلة تجاه الشخص المقسوم وكأنه أصبح فرداً غريباً لا يأكل معهم ولا يتحدث إليهم في مشاكله ولا يتحدثون معه في أي حديث كان الأمر بالنسبة لي لا يعني جديداً فأنا أجد متعة كبيرة في الوحدة.. فالوحدة تشعرني بأني أمتلك العالم سوف أنتهي من مشاكل عديدة أولها عدم التقيد أو الالتزام بأي طقس من طقوس الأسرة وعلى فوري خلعت ملابس الفلاحة مرة أخرى وارتديت ملابسي العصرية ووضعت عطوري وأدوات زينتي الملونة كان عليّ أن أعيش حياتي واعتبر قصصي التي أكتبها فوق الورق جزءاً من هذه الحياة ولتكن أولادي الذين لم أنجبهم لقد ارتضيت بكل شيء في سبيل الاستقرار لقد أوصاني أبي ونفذت وصيته.. أوصاني ألا أتمرد على الحياة فالتمرد يعني التشرد لم أسع لحياة منفصلة بل المجتمع أجبرني على هذه الحياة وعلى رأي جدتي رضيت بالهم والهم مش راضي.. قلبت كرة الحياة وبرغم أن معظمها مظلم إلا أني وجدت بها بصيص من أمل..ليست كل الحياة هم وغم ويأس وضحكت وأنا أقرأ حياة أبو العلاء المعري وهم يطلقون عليه رهين المحبسين لأنه كان أعمى ولا يخرج من الدار.. ضحكت أكثر وأنا أرى نفسي رهينة كل المجالس فأنا رهينة العادات والتقاليد ورهينة الغربة و الوحدة واليتم.. العالم كله يضيق في عيني لكن البصيص الذي وجدته جعلني أتسامى عن كل جراحي وأسأل نفسي…ألست متعلمة..؟؟ نعم..ألست ذكية…؟؟ نعم..ألست أدبية أمتلك أدواتي…؟؟ نعم..لماذا لا أخرج للعمل.. سؤال تطرق إلى ذهني خاصة وأن أحد شروط زواجي كان عدم التطرق لمجرد الحديد عن العمل فالمرأة خلقت للدار.. تعمل فيها لا تخرج .وهل أنا رفضت العمل في الدار لا.. لقد حاولت قدر الإمكان ولم تفلح التجربة وأصبحت تجربة فشل واضحة تتندر بها النسوة في شماتة.. لابد من العمل مهما كانت التقاليد ومهما كان من أمرها ماذا يقولون.. خرجت زيزي كي تعمل وماله ودي فيها إيه..؟؟إن الحرب تصنع العظماء والشاطر من يخرج من حرب الحياة منتصراً.. من الغد سوف أقدم أوراقي كي أعمل وسوف ألقى كل المشاكل خلف ظهري…