أنا اسمي زيزي حاصلة على بكالوريوس تجارة بدرجة مقبول.. أكبر إخواتي البنات لكن مهدي أخي يكبرني علمني البجاحة لكثرة مشاغباته اليومية معي.. أحببت أختي سميحة وأخي العربي أكثر منه وانضممنا إلى حزب واحد أسميناه "حزب القطط" لعيوننا الخضراء وبشرتنا البيضاء الناصعة وشعورنا الصفراء.. وكلما سألنا أحد هل أنتم أجانب قلنا لا..نحن مصريون أباً عن جد.. لكن "نينه وداد" الأروبة زوجة جدي محمد الثانية قالت لي حكاية شبه أسطورة.. والحكاية تقول هناك في جزيرة بعيدة اسمها "مالطة" كانت بين البحر والسماء وأهلها طيبيون.. لكنهم لا يدينون بدين الإسلام.. كان فتى وفتاة أحب كلاً منهما الآخر وبات لا يفارقه.. عرفا الله والإسلام عن طريق رجل عربي من شبه الجزيرة العربية..وحينما عرف أهل الجزيرة بهذا الدين الجديد قرروا اعدامهما على مرأى ومسمع من كل الناس لكن الفتى والفتاة استطاعا الفرار وركبا القارب ومعهما الرجل المسلم.. وظل القارب يسير في البحر على غير هدى.. إلى أن رسى على إحدى الجزر البعيدة وتزوج الفتى من الفتاة وأنجبا أبناء كثيرون مثل أبينا آدم وأمنا حواء.. وأطلق الناس اسم الملطي على الفتى واسم الملطية على الفتاة.. وقد كان لهما جمال أخَّاذ بالعيون الملونة والبشرة البيضاء.. وظل الناس يحرفون في الاسم جيلاً بعد جيل.. إلى أن صار اسم الجزيرة "المطرية" وفي المطرية البشر لهم جمال خاص وطبيعة سمحاء وإيمان مطلق بالله والرزق.. ورثت عن جدي وجدتي هذا الشكل كمعظم أفراد عائلتي.. أعمامي وعماتي وخالاتي وخيلاني هناك في الدار الكبيرة المكونة من طابقين الطابق الأول وكان يشمل صالة واسعة وحجرة نوم للأب والأم وأخرى لثلاثة أطفال صغار أنجبتهم الأم على مرحلة سنية أخرى من عمرها بعد أن أنجبت الأبناء الكبار الذين انفصلوا وسكنوا الطابق الثاني لا ينزلون إلى الدور الأول إلا للضرورة فأنا في الطابق العلوي كنت المكلفة بالطبخ لكافة أفراد الأسرة وخدمتهم وأقوم بعمليات التنظيم وأحمي الأطفال وأرعاهم وأمي عليها شيء واحد هو الإنجاب وما يتبعه من رعاية للصغير كنت شديدة الولع بالقراءة برغم مسئولياتي كفتاة مسئولة عن أسرة كبير العدد لكن لا بأس من دخول مكتبه الوالد ذلك الأستاذ الأزهري الذي علمني كيف أصبح مثقفة برغم كل الظروف.. الرومانسية شيء تغلغل في ذاتي وطغي على قلمي وفي المرحلة الثانوية وجدتني أنثى كبيرة على أعتاب المراهقة يتقدم الخطاب لخطبتي كعادة أهل مدينتي الصغيرة التي ما أن تشب البنت علن الطوق لتعلق ملامحها أنها ستكون أنثى حتى تتم خطبتها وما أن تحصل على الابتدائية أولاً تحصل عليها فإن الزينات ترفع في نصبه كبيرة عالية جداً لمدة أسبوعين لتعلن أن فرح إحداهن على العيد الصغير بعد رمضان فهذا هو موسم الأفراح عندنا في المطرية..وما أن ينتهي رمضان حتى تتحول المدينة إلى حفل موسيقى ومهرجان للمزيكا تتبارى فيه عدة فرق شهيرة في آن الوقت في الستينيات.. يقف الهباب متوسطاً الشارع الواسع فأهم ما يميز المدينة شوارعها المتسعة المنظمة التي خططها أحد المهندسين الفرنسيين أثناء الاحتلال البريطاني على مصر في الأربعينات فتقف في الشارع لتكشف المدينة عن آخرها.. لذلك كنا نرى الهباب وهو موسيقار شديد الذكاء، والفن، والفزلكة يعزف بلا نوتة ومع ذلك ينطلق اللحن ينساب طبق الأصل من الأغنيات التي كانت تنتشر في الأفراح في هذه الفتره لتسمع مزيكه: وحياة قلبي وأفراحه لعبد الحليم أو نسمع علشان الشوك إلي في الورد لعبد الوهاب أو أغنية "مبروك عليك يا معجباني يا غالي" لشريفه فاضل ملكة الليل والأفراح والتي كانت العروس تشترط أن يكون بين الأغنيات التي تغنيها العالمة أغنية "مبروك عليك يا معجباني يا غالي – عروستك الحلوة قمر بيلالي وغالباً ما كانت تغنيها أشهر مطربة في ذلك الوقت "الحاجة بُسبس" عالمة المنصورة الشهيرة وطبق القشدة المثير التي ما أن يهتز حتى ينسال لعاب الحاضرين فيصفقون ويرقصون ويغنون معها بسبس – بسابيسو – بسابس أسرت إلى أمي حين هل المساء وقمت بغسل إخواني الصغار الواحد تلو الأخرى من تراب الشوارع الذي كان أن يخفي ملامحهم ويطمس معالم ملابسهم لنبدأ رحلة غسيل حين يأتي الصباح.. كان مزاجها معتدل وهادئة على الرغم من توترها طوال الوقت لكنها ربتت على كتفي قائلة..إنتِ كبرتِ يا زيزي ما شاء الله عليكِ وشايله هم إخوانك معايا..§ ربنا يخليكِ يا ماما.. ولا يهمك بس يا ريت ما عتيش تخلفي تاني عشان صحتك..§ إن شاء لله دي آخر مرة أوعدك وربنا يشهد عليه.. أنا حامل شهرين وإنتِ أول واحدة تعرفي..شلت المفاجأة الجديدة كياني كله كنت أريد ساعتها أن أصرخ بأعلى صوتي.. حرام.. لقد باشت أظافري من غسل المواعين والملابس لماذا كل هذا الجهل..؟!! ماذا سيضيف القادم إلينا سوى المزيد من الهم والقليل من الطعام الذي نتناوله سوف يذهب إلى الطبلية المنصوبة أمامنا في كل وجبة تثير الشفقة الأطباق المعدودة طبق العشاء الممتلئ بالأرز وأطباق الخضار التي غالباً ما نسكبها فوق الأرز ونمد ملاعقنا ونأكل وما هي إلا لحظات حتى تتخبط الملاعق محدثة جلبة شديد تنبئ بأن الطعام قد انتهى والبطون مازالت خاوية..لاحظت أمي شرودي وهمي وقالت..إنت شاطرة في المدرسة.. مش كده..؟؟طبعاً يا ماما..وناوية تكملي تعليمك وتدخلي كلية الطب..!!إن شاء الله..نفسي تحققي أملي.. فاكرة يا زيزي بعد ما أخدت الابتدائية وأصرت عمتك تفيدة أن تزوجك ابنها سليم.. وأنا وقفت للكل وقلت أبداً بنتي شاطرة في المدرسة مش هاتخرج أبداً.. وهاتبقى دكتورة.. فاكره يا زيزي..!!طبعاً فاكرة ولولا إصرارك يا ماما كنت زماني اتجوزت من بدري زي نبيلة بنت عمي والزغلولة بنت خالي والقلة بنت عمتي كلهم خرجوا من المدرسة واتجوزوا وكل واحدة معاها اثنين وثلاثة..لكن إنت هاتوعديني تبقى دكتورة.. مش كده..أوعدك يا ماما..كان هذا آخر لقاء جمعني بأمي وكانت لا تزال في بداية حملها رقم تسعة الذي كان وبالاً عليها دون أن تدري ساعتها كنت في أول يوم في الدراسة بالصف الثالث الثانوي بمدينة المطرية وأنا أعتقد ولماذا كان اعتقادي بأني طالبة ممتازة سوف تلتحق بكلية الطب التي وعدت أمها بها..حالة من التوهان تشملني دائماً.. أهوى العزلة والكتابة وأرسم قصوراً على الرمال وأرتدي أثوابَ الحلمِ المخملية لأنفصل عن عالمي الذي كنت أحياه وبرغم الدفء والحب الذي كان يشمل الأسرة إلا أنني كنت أشعر بالمرارة تغوص في حلقي وأنا أقترب من امتحانات الثانوية العامة المصيرية.زيزي.. أول بنت في العائلة تصل لهذه الدرجة من العلم – شاطرة في المدرسة وتتحدث في الإذاعة المدرسية وتذيع أخبار وتقول أشعار رغم ذلك لم أكن أشعر بالسعادة أبداً..اجتزت أيام الامتحانات الصعبة وكل يوم تنهال دموعي فوق خدي في صمت وكلما مر يوم ابتعد عني الأمل..ولدت أمي في تلك الأثناء جنيناً ميتاً.. لم تحزن ولم أحزن ولا أي فرد في الأسرة.. خرجت من الولادة بقلب كسير يتنبا بما سيحدث لي ولها في آن واحد..بعد الولادة كانت مرهقة للغاية وجهها أصفر شاحبة تأكل قليلاً اتسعت ملابسها بدأ شعرها في السقوط وعظامها تؤلمها لأقل مجهود لكنها تحاملت على نفسها انتظار الأمل لكي يتحقق بي عندما أدخل الطب وأحمل البالطو.. ترى هل يتحقق..؟؟!!ومرت الأيام بطيئة متثاقلة في انتظار النتيجة وفي صباح اليوم الذي يسبقها أصدر الوزير تعليماته للأوائل ودعوتهم لزيارة مكتبه لكي يهنئهم ولشكرهم ولشكر أولياء أمورهم وأن ولي الأمر يستحق وساماً مثله مثل الطالب تماماً فالمتفوق لابد وأن تكون خلفه رعاية من الأهل.. رعاية تفوق الوصف.. وانتظرت أمي الوزير ليعلن اسمي بينهم لكنه لم يعلنه فبكت وضحك الجميع.. يا أم محمد مش مهم الأوائل.. الرك على المجموع.دق قلبي بعنف وأنا انتظر غداً بفارع الصبر لم أنم ليلتي بتها مؤرقة تحسبا للمجهول الذي سيغير مجرى حياتي أسود أم أبيض أرضاً أو سماء..وجاء الغد المنتظر.. فماذا كان وصار..؟!!فتحت الراديو وظلت استمع إلى أرقام جلوس الناجحين تحطمت أعصابي ولم يصل بعد إلى مدرسة المطرية الثانوية بنات.. أذن الظهر وأمي تنتظر وأبي ينتظر لم يرحمنا الوقت إلى أن أطل أخي الصغير راكباً دراجة أبي حاملاً النتيجة ويا ليته ماراح وليته ما جاء الخبر بادياً على وجهه الصغير وعينية المحمرتين من البكاء وكانت النتيجة الغير متوقعة 55% ولا عزاء للطب ولا أي كلية أخرى..انسحبت في هدوء لأغلق باب غرفتي معلنة الحداد في عاصفة لم تشهدها ذاتي طوال حياتي خاصمت الطعام حاولوا إخراجي من حالتي ولكن بلا فائدة.. مرضت أمي مرضاً شديداً انتقلت على إثره إلى مستشفى المنصورة العام.. خرجت من حزن إلى حزن أكبر وأنا أرى أعز من لي في الوجود تودع الحياة بعد أن ودعت أحلامي في مستقبل مشرف وغد يبتسم.ظلت أمي طريحة الفراش تعاني أمراضاً عديدة كنت أتعذب كل يوم آلاف المرات.. في تلك الأثناء تقدمت بأوراقي إلى مكتب التنسيق في آخر مرحلة.. المرحلة الرابعة بعد أن استنفذت كافة الكليات والمعاهد العليا.. رجوتني أمي بعينيها أن أعيد العام الدراسي لكني أثرت الصمت ولتأخذني الريح كما تشاء.ها هو الليل يزحف ببطء والسماء تصفو والقمر يغني أغنية حزينة والفجر تهدأ أنفاسه ويصمت وينتظر أول شعاع من نور ليعلن رحيل أمي فقيدة الشباب والربيع والحب..كان خبراً متوقعاً وناراً متأججة لم ينطفئ لهيبها مهما مرت السنين.. تعالى الصياح واختلطت أصوات النساء بأصوات الرجال ما بين وصف لصفاتها الجميلة وحنانها الأخَّاذ وربيعها المحمل بعبق العطر والزهور رحلت في صمت ورحل معها آخر أمل في أن ينصلح حالي وأعيد العام الدراسي فها هي بطاقة الترشيخ تصل لأحمل حقائبي إلى المعهد الفني ببور فؤاد وكم تمنيت ساعتها أن أكون جاهلة وأن تعود السنوات بي للخلف فأخرج من المدرسة بعد الابتدائية وأتزوج ابن عمتي وأقطع صلتي بكل كتاب أراه، جاءت النهاية تزحف بأرجل مشلولة وعيون عمياء لتسد منافذ الحياة في وجهي معهد فني وماذا يعني..؟!! أي مدرسة تجارة أفضل منه بالتأكيد.. وماذا بعد أيتها الريح..؟!! صدمتان في آن واحد.. تلقيني داخل شباكها التي لا ترحم.. أمي والموت ومستقبلي المحطم على أعتاب الخوف.. فالأمل الذي كان يرفرف يوماً في صدري هجرني بلا عودة لأراضي بعيدة مسافات تفصلني وإياها.. وماذا بقى..؟؟!! غير أب وحيد وأطفال ثمانية وموقد غاز لابد أن يشتعل ليأكل الصغار.. الموت لا يهم فالحياة تسير مهما تحملنا منها ومهما رأينا فيها من أهوال ماذا أفعل..؟!! هل أترك الصغار لأسافر وأحصل على دبلوم المعهد أم أنسى هذا الموضوع..؟!! وأبقى بجوار الصغار أرعاهم وأرعي شئونهم دوامة كانت تجذبني داخلها جذباً..لا ترحمني هوة سحيقة القي نفسي إليها بإرادتي..