عام يمر على الميلاد "عام يمر على أول عيد أشهده في القرية صغيرتي تملأ الدنيا ضجيجاً ومزجاً تصدح بأغنيات الفوازير.." عم يا جنيني إدني وردة كانت أغنية تغنيها نسرين ممثةل ومطربة ومعتزلة مع فنان كبير هو الفنان عبد المنعم مدبولي.. الصغيرة تحدثني كأنثى كبيرة وتلملم الأشياء ورائي وتدخل الحمام بعجلتها الصغيرة وتحمل القطة وتقلدها وتخبط بالملعقة في الطبق طالبة الطعام فاللبن لم يعد يكفيها هي أنثى تكبر.. فهل تبقى على لبن الأم..؟؟ ثم إنها أصبحت تنتقي ألوان ملابسها.. وترفض بعض الملابس وتطوحها.. وتهلل حين ترى المياه في البانيو تتدفع كأنها تلقي بنفسها إليه تنزع كل ملابسها وبين يدي أبيها تستسلم كي تغسل قدميها ويسكب شامو ذو رائحة حلوة فوق الشعر المسترسل فوق الكتفين كفتاة رائعة الملمس...أستعد غداً للذهاب إلى العمل الذي كنت أعشقه لكن عشقي للأمومة كان أقوى من الحياة ذاتها.. ارتديت زياً يتناسب مع المرحلة الجديدة فلقد امتلأ الجسد وأنبأ العالم أنني أصبحت أماً.. في المدرسة كانت فرحة الجميع بي كبيرة وطاغية.. أما المكتبة فقد شعرت أنها يتيمة بدوني، فالكتب وقعت على الرفوف وكأنها تائهة في انتظار الفرج، ناديت العمال لتنظيفها ووضع لافتة كبيرة بأن المكتبة قد فتحت أبوابها للاستعارة فتدافع الطلبة في أعداد كبيرة يتزاحمون على الدخول.. كأنها دار للسينما تعرض فيلماً لتشجع السينما..دقت الساعة العاشرة فشعرت بحاجة صغيرتي إليَّ، فهي تبكي وتناديني.. تركت كل شيء وجريت أدفع بنفسي في أول سيارة تقابلني على الطريق وحين وصلت وجدتها نائمة بين الفرن والكانون وتستغرق في النوم دافئة مستكينة.. فحملتها على ذراعي وصعدت بها إلى الشقة وكأن بين يدي كنز ثمين..الأيام أرها مشرقة والأزهار متفتحة والقمر أراه يغمر الكون ضياء وبهاء.. وقتي مشحون أعاني من العمل تحسرت على أيام الفراغ سهام تأخذ كل وقتي وتعاندي وتصر على أن أحملها على كتفي كلما غدوت أو أتيت لكن يبدو أن شجرة أمالي تطرح مرة أخرى أوراقها تخضر وتضرب في أعماقي خفت أن أشيب ويتقوس ظهري تحت وطأة القهر النفسي الذي يعاني من العقم لكن برغم الأحزان أصبح أماً..وحكاية الأمومة هذه ذكرتني بمقولة الأديب الروسي الإنسان الكبير مكسيم جوركي 1868م-1936م في أول سطر من إحدى قصصه القصيرة.. إن الإنسان يستطيع أن يتحدث بلا انقطاع عن الأمومة وفي قصة قصيرة أخرى يتوقف جوركي قليلاً عن تقديم أحداث قصة ليكتب أنشودة شعرية عذبة عن الأم ونحن عامة لا نجد عند هذا الكاتب صاحب القلب الكبير فرقاً بين الشعر والنثر وكثيراً تمتلئ قصصه بالشعر تعبر عن موقف من الموافق خاصة عندما يكون هذا الموقف مليئاً بالعاطفة وفي أنشودة لجوركي كتبها في إحدى قصصه القصيرة يقول هذا الفنان الجميل "أهناك ما هو أجمل من أغنية الأزهار والنجوم الجميع يعرفون الجواب" إن هذه الأغنية الأجمل هي أغنية الحب ولكن هناك أغنية أخرى هي أجمل من كل أغنيات العالم على الإطلاق إنها أغنية كل الأغنيات وهي أغنية البدأ بالنسبة لجميع الأشياء وعلى هذه الأرض إنها أغنية لذلك التي نسميها "الأم" لذلك لا نجد شاعر أجمل من جوركي فهو بحق شاعر الأمومة الأول في أدب العالم كله.. ولقد تعرض جوركي للأمومة في صورها المختلفة وجوانبها المتعددة ولكن أصعب المواقف هي أن تكون الأم أماً لابن خان وطنه واعتدى عليه هنا يمكن أن يقف قلب جوركي النبيل الحساس عاجزاً عن التعبير والتحليل فهل يمكن لهذه الأم أن تنساق وراء مشاعرها الفطرية وتتقبل خيانة الابن وتلتمس لها الأسباب والمبررات إن هذا الموقف يكون لون من الضعف ويكون شراً لاشك فيه والأمومة عند جوركي هي الكمال والجمال والخير المطلق أما الشر في طبيعته فهو متناقض في طبعته مع الأمومة..هذا ما يعالجه جوركي في قصة بديعة بعنوان "أم الخـائن" قرأتها مترجمة للأستاذ فوزي جرجس كان لابد أن أتعمق في مفهوم الأمومة أثقف نفسي في مواجهة الأحداث أعرف حدودها كام مع ابنتي وأقومها ولا أتركها ينفلت منها زمام الأمور لأني اشتقت لإنجابها فلسفتي كانت عميقة ومؤثرة.. كثيرات من البنات خرجن ضاربات بالطاعة والاحترام عرض الحائط فنبذهن المجتمع وعندما أتمت ابنتي عامها الأول وشعرت أنها على فطرتها ذكية ذكاء حاداً فرحت أنهرها وأقومها وأقول لها هذا كخ فتبكي أو هذا دح فتضحك.. أعود إلى قصة "أم الخائن" التي تقول ماذا تفعل الأم واسمها "ماريان" في ابنها الخائن الذي هو في القصة بلا اسم ولكن موجود في القصة بصفته كمستبد طاغية عدواني سكران بخمرة قوته العسكرية مصمم على الخيانة وعلى تدمير مدينته لأنها تقاومه ولا تدين له بالولاء والطاعة ولا ترضى أن تحني رأسها لطغيانه واستبداده بالناس وانفراده بكل الأمور في غطرسة مغروراً ولهذا نجد الأم بين نارين فمدينتها لها قضية عادلة ومطلب مشروع في الأمن والعدل والمحافظة على كرامة الناس وكرامة الحياة وفي المقابل فإن هناك ابنها الوحيد الذي تعشقه ولكن هو قائد جيش العدوان الذي يهدد المدينة ويحاصرها ويدمر بيوتها ويقتل أهلها ويقضي على كل ما في حقولها وبساتينها وفي الظلام الذي يشمل المدينة المحاصرة.... كانت "مارينا" أم الخائن تلتف بالسواد من الرأس إلى القدم كانت تتحرك بلا صوت كأنها سمكة تهتز في قاع النهر ولأنها مواطنة وأما أخذت تفكر في ابنها وفي بلدها فعلى رأس الجيش الذي يسعى لإهلاك مدينتها يقف ابنها ذلك الجميل الذي لا قلب له..وتفكر الأم كثيراً وهي تتجول في طرقات المدينة فتعود بها الذاكرة إلى وقت ليس ببعيد حيث كانت تنظر إلى ابنها في فخر ونشوة وكانت تعتبره هديتها الرائعة إلى بلدها وتتصور أنه قوة تعمل على الخير وتسعى لمساعدة سكان المدينة التي ولدت هي فيها مثلما ولد ابنها وترعرع وحبها لمدينتها لم تستطع أن تتبين أيهما كان الأرجح وأخيراً أستقر قلب الأم على قرار كتمته مثل السر العميق داخل صدرها وذهبت بعد ذلك إلى رجال المقاومة الذين يدافعون عن المدينة وقالت لهم في وضوح وشجاعة لقد أصبح ابني عدوكم فإما أن تقتلوني أو تفتحوا لي الطريق حتى أذهب إليه ويرد عليها رجال المقاومة قائلين أنت إنسانة ويجب أن يكون وطنك عزيزاً عليكي ابنك عدو لك كما هو عدو لنا وتشاور رجال المقاومة فيما بينهم ثم قالوا لهذه الأم – ليس من الشرف أن نقتلك من أجل خطأ ابنك نحن نعلم أنه ليس لك ذنب في ارتكاب هذا الإثم العظيم.. وترك رجال المقاومة تلك المرأة أن تقابل ابنها وأخيراً وقفت وجهاً لوجه مع ابنها أمام الشخص الذي حملته تسعة أشهر قبل ولادته وهو الشخص الذي لم يفارق قلبها أبداً وجدته يرفل في ثياب من الحرير أما أسلحته مرصعة بالأحجار الكريمة كل شيء كما تخيلته في أحلامها بهذا المنظر غنياً ذائع الصيت قال لها وهو يقبل يديها.. أمي أنت معي وغداً سأغزو تلك المدينة اللعينة قالت له إنها مدينتك التي ولدت فيها فأجابها بعناد وقد أسكره سلطانه وأطاح بعقله تعطشه لمزيد من القوة والمجد قال: لقد ولدت في العالم ومن أجل العالم وفي نيتي أن تهتز الدنيا إعجاباً بي لقد تركت هذه المدينة فترة من أجلك يا أماه ولكنها أصبحت الآن شوكة في جنبي وأصبحت عائقاً يؤخر تقدمي السريع نحو المجد والقوة وفي الغد سوف أقوم بتحطيم هذه المدينة العنيدة ويستمر الحوار بين الأم وابنها فيقول الابن أنه لا يبقى في ذاكرة الناس إلا الأبطال الخالدون فتقول له أمه إن البطل هو الذي يهزم الموت وفي عناد شديد يقول الابن "كلا إن مخرب الدنيا عظيم مثل بانيها انظري نحن لا نعرف من الذي بنى روما ولكننا نعرف جيداً اسم "الزوار" والأبطال الآخرين الذين هدموا هذه المدينة.. ونترك جوركي يعلق على هذا كله بأسلوبه الموسيقي وألحانه العذبة العجيبة في تمجيد الأم والأمومة في اعتبارها القوة الأولى التي لا تعلو عليها قوة أخرى ومع ذلك يأتي المشهد الأخير في هذه القضية الإنسانية البديعة حيث يقول الابن لأمه قد نهاجم الليلة إذا كان الليل مظلماً بما فيه الكفاية فالقتل إذا أشرقت الشمس في عينيك وأعماك بريق السيوف لكن الأم تناه عن ذلك وتقول له دعك من هذا وتعالى هات رأسك وضعها على صدري وتذكر أيام طفولتك ومرحك لقد كنت عطوفاً وكل إنسان كان يحبك أطاعها ابنها ورقد على حجرها وأقفل عينيه قائلاً: أحب المجد فقط وأحبك يا أمي لأنك صنعتيني كما أنا وسألته أمه ألا تحب النساء فقال إنهن كثيرات والإنسان يشعر بالملل من كل شيء وافر الحلاوة وأخيراً وجهت الأم إلى ابنها الجميل الذي لا قلب له ألا تشتهي أن يكون لك أولاد..؟!! فأجابها.. ولماذا..!! حتى يتعرضوا للقتل..!! سوف يقتلهم شخص مثلي وهذا سيسبب لي ألما وسوف أكون عجوزاً ضعيفاً فلا أستطع أن أنتقم لهم، قالت الأم يائسة إنك عقيم ولن تستجيب لندائي وأخذه النعاس على صدر أمه كما يفعل النعاس بالطفل دائماً وبعد أن غطته أمه بمعطفها الأسود غرست في قلبه سكيناً فأصابته رعشة ثم مات على فوره وبعد أن ألقت الأم جثة ابنها عند أقدام الحراس المذهولين قالت وهي تخاطب المدينة: كمواطنة فعلت ما تمليه علي وطنيتي وانتمائي وكأم فإنني سأظل مع ابني لقد فات الأوان ولن ألد ابناً آخر فحياتي بعده لن يعد لها جدوى وأمسكت بالسكين الذي لازال دافئاً بدم ابنها وبيد ثابتة غرست السكين في صدرها وضمهما غطاء واحد..تلك القصة سجلتها لتقرأها سهام حين تكبر.. وتتعلم منها أنه من يخون وطنه ليس له مكان في العالم حتى قلب أمه.. إن الأمومة التي حققتها لي الأقدار فاقت كل شعور ومشاعر مرت على قلبي قبلها..