أم الخائن

عام يمر على الميلاد "عام يمر على أول عيد أشهده في القرية صغيرتي تملأ الدنيا ضجيجاً ومزجاً تصدح بأغنيات الفوازير.." عم يا جنيني إدني وردة كانت أغنية تغنيها نسرين ممثةل ومطربة ومعتزلة مع فنان كبير هو الفنان عبد المنعم مدبولي.. الصغيرة تحدثني كأنثى كبيرة وتلملم الأشياء ورائي وتدخل الحمام بعجلتها الصغيرة وتحمل القطة وتقلدها وتخبط بالملعقة في الطبق طالبة الطعام فاللبن لم يعد يكفيها هي أنثى تكبر.. فهل تبقى على لبن الأم..؟؟ ثم إنها أصبحت تنتقي ألوان ملابسها.. وترفض بعض الملابس وتطوحها.. وتهلل حين ترى المياه في البانيو تتدفع كأنها تلقي بنفسها إليه تنزع كل ملابسها وبين يدي أبيها تستسلم كي تغسل قدميها ويسكب شامو ذو رائحة حلوة فوق الشعر المسترسل فوق الكتفين كفتاة رائعة الملمس...أستعد غداً للذهاب إلى العمل الذي كنت أعشقه لكن عشقي للأمومة كان أقوى من الحياة ذاتها.. ارتديت زياً يتناسب مع المرحلة الجديدة فلقد امتلأ الجسد وأنبأ العالم أنني أصبحت أماً.. في المدرسة كانت فرحة الجميع بي كبيرة وطاغية.. أما المكتبة فقد شعرت أنها يتيمة بدوني، فالكتب وقعت على الرفوف وكأنها تائهة في انتظار الفرج، ناديت العمال لتنظيفها ووضع لافتة كبيرة بأن المكتبة قد فتحت أبوابها للاستعارة فتدافع الطلبة في أعداد كبيرة يتزاحمون على الدخول.. كأنها دار للسينما تعرض فيلماً لتشجع السينما..دقت الساعة العاشرة فشعرت بحاجة صغيرتي إليَّ، فهي تبكي وتناديني.. تركت كل شيء وجريت أدفع بنفسي في أول سيارة تقابلني على الطريق وحين وصلت وجدتها نائمة بين الفرن والكانون وتستغرق في النوم دافئة مستكينة.. فحملتها على ذراعي وصعدت بها إلى الشقة وكأن بين يدي كنز ثمين..الأيام أرها مشرقة والأزهار متفتحة والقمر أراه يغمر الكون ضياء وبهاء.. وقتي مشحون أعاني من العمل تحسرت على أيام الفراغ سهام تأخذ كل وقتي وتعاندي وتصر على أن أحملها على كتفي كلما غدوت أو أتيت لكن يبدو أن شجرة أمالي تطرح مرة أخرى أوراقها تخضر وتضرب في أعماقي خفت أن أشيب ويتقوس ظهري تحت وطأة القهر النفسي الذي يعاني من العقم لكن برغم الأحزان أصبح أماً..وحكاية الأمومة هذه ذكرتني بمقولة الأديب الروسي الإنسان الكبير مكسيم جوركي 1868م-1936م في أول سطر من إحدى قصصه القصيرة.. إن الإنسان يستطيع أن يتحدث بلا انقطاع عن الأمومة وفي قصة قصيرة أخرى يتوقف جوركي قليلاً عن تقديم أحداث قصة ليكتب أنشودة شعرية عذبة عن الأم ونحن عامة لا نجد عند هذا الكاتب صاحب القلب الكبير فرقاً بين الشعر والنثر وكثيراً تمتلئ قصصه بالشعر تعبر عن موقف من الموافق خاصة عندما يكون هذا الموقف مليئاً بالعاطفة وفي أنشودة لجوركي كتبها في إحدى قصصه القصيرة يقول هذا الفنان الجميل "أهناك ما هو أجمل من أغنية الأزهار والنجوم الجميع يعرفون الجواب" إن هذه الأغنية الأجمل هي أغنية الحب ولكن هناك أغنية أخرى هي أجمل من كل أغنيات العالم على الإطلاق إنها أغنية كل الأغنيات وهي أغنية البدأ بالنسبة لجميع الأشياء وعلى هذه الأرض إنها أغنية لذلك التي نسميها "الأم" لذلك لا نجد شاعر أجمل من جوركي فهو بحق شاعر الأمومة الأول في أدب العالم كله.. ولقد تعرض جوركي للأمومة في صورها المختلفة وجوانبها المتعددة ولكن أصعب المواقف هي أن تكون الأم أماً لابن خان وطنه واعتدى عليه هنا يمكن أن يقف قلب جوركي النبيل الحساس عاجزاً عن التعبير والتحليل فهل يمكن لهذه الأم أن تنساق وراء مشاعرها الفطرية وتتقبل خيانة الابن وتلتمس لها الأسباب والمبررات إن هذا الموقف يكون لون من الضعف ويكون شراً لاشك فيه والأمومة عند جوركي هي الكمال والجمال والخير المطلق أما الشر في طبيعته فهو متناقض في طبعته مع الأمومة..هذا ما يعالجه جوركي في قصة بديعة بعنوان "أم الخـائن" قرأتها مترجمة للأستاذ فوزي جرجس كان لابد أن أتعمق في مفهوم الأمومة أثقف نفسي في مواجهة الأحداث أعرف حدودها كام مع ابنتي وأقومها ولا أتركها ينفلت منها زمام الأمور لأني اشتقت لإنجابها فلسفتي كانت عميقة ومؤثرة.. كثيرات من البنات خرجن ضاربات بالطاعة والاحترام عرض الحائط فنبذهن المجتمع وعندما أتمت ابنتي عامها الأول وشعرت أنها على فطرتها ذكية ذكاء حاداً فرحت أنهرها وأقومها وأقول لها هذا كخ فتبكي أو هذا دح فتضحك.. أعود إلى قصة "أم الخائن" التي تقول ماذا تفعل الأم واسمها "ماريان" في ابنها الخائن الذي هو في القصة بلا اسم ولكن موجود في القصة بصفته كمستبد طاغية عدواني سكران بخمرة قوته العسكرية مصمم على الخيانة وعلى تدمير مدينته لأنها تقاومه ولا تدين له بالولاء والطاعة ولا ترضى أن تحني رأسها لطغيانه واستبداده بالناس وانفراده بكل الأمور في غطرسة مغروراً ولهذا نجد الأم بين نارين فمدينتها لها قضية عادلة ومطلب مشروع في الأمن والعدل والمحافظة على كرامة الناس وكرامة الحياة وفي المقابل فإن هناك ابنها الوحيد الذي تعشقه ولكن هو قائد جيش العدوان الذي يهدد المدينة ويحاصرها ويدمر بيوتها ويقتل أهلها ويقضي على كل ما في حقولها وبساتينها وفي الظلام الذي يشمل المدينة المحاصرة.... كانت "مارينا" أم الخائن تلتف بالسواد من الرأس إلى القدم كانت تتحرك بلا صوت كأنها سمكة تهتز في قاع النهر ولأنها مواطنة وأما أخذت تفكر في ابنها وفي بلدها فعلى رأس الجيش الذي يسعى لإهلاك مدينتها يقف ابنها ذلك الجميل الذي لا قلب له..وتفكر الأم كثيراً وهي تتجول في طرقات المدينة فتعود بها الذاكرة إلى وقت ليس ببعيد حيث كانت تنظر إلى ابنها في فخر ونشوة وكانت تعتبره هديتها الرائعة إلى بلدها وتتصور أنه قوة تعمل على الخير وتسعى لمساعدة سكان المدينة التي ولدت هي فيها مثلما ولد ابنها وترعرع وحبها لمدينتها لم تستطع أن تتبين أيهما كان الأرجح وأخيراً أستقر قلب الأم على قرار كتمته مثل السر العميق داخل صدرها وذهبت بعد ذلك إلى رجال المقاومة الذين يدافعون عن المدينة وقالت لهم في وضوح وشجاعة لقد أصبح ابني عدوكم فإما أن تقتلوني أو تفتحوا لي الطريق حتى أذهب إليه ويرد عليها رجال المقاومة قائلين أنت إنسانة ويجب أن يكون وطنك عزيزاً عليكي ابنك عدو لك كما هو عدو لنا وتشاور رجال المقاومة فيما بينهم ثم قالوا لهذه الأم – ليس من الشرف أن نقتلك من أجل خطأ ابنك نحن نعلم أنه ليس لك ذنب في ارتكاب هذا الإثم العظيم.. وترك رجال المقاومة تلك المرأة أن تقابل ابنها وأخيراً وقفت وجهاً لوجه مع ابنها أمام الشخص الذي حملته تسعة أشهر قبل ولادته وهو الشخص الذي لم يفارق قلبها أبداً وجدته يرفل في ثياب من الحرير أما أسلحته مرصعة بالأحجار الكريمة كل شيء كما تخيلته في أحلامها بهذا المنظر غنياً ذائع الصيت قال لها وهو يقبل يديها.. أمي أنت معي وغداً سأغزو تلك المدينة اللعينة قالت له إنها مدينتك التي ولدت فيها فأجابها بعناد وقد أسكره سلطانه وأطاح بعقله تعطشه لمزيد من القوة والمجد قال: لقد ولدت في العالم ومن أجل العالم وفي نيتي أن تهتز الدنيا إعجاباً بي لقد تركت هذه المدينة فترة من أجلك يا أماه ولكنها أصبحت الآن شوكة في جنبي وأصبحت عائقاً يؤخر تقدمي السريع نحو المجد والقوة وفي الغد سوف أقوم بتحطيم هذه المدينة العنيدة ويستمر الحوار بين الأم وابنها فيقول الابن أنه لا يبقى في ذاكرة الناس إلا الأبطال الخالدون فتقول له أمه إن البطل هو الذي يهزم الموت وفي عناد شديد يقول الابن "كلا إن مخرب الدنيا عظيم مثل بانيها انظري نحن لا نعرف من الذي بنى روما ولكننا نعرف جيداً اسم "الزوار" والأبطال الآخرين الذين هدموا هذه المدينة.. ونترك جوركي يعلق على هذا كله بأسلوبه الموسيقي وألحانه العذبة العجيبة في تمجيد الأم والأمومة في اعتبارها القوة الأولى التي لا تعلو عليها قوة أخرى ومع ذلك يأتي المشهد الأخير في هذه القضية الإنسانية البديعة حيث يقول الابن لأمه قد نهاجم الليلة إذا كان الليل مظلماً بما فيه الكفاية فالقتل إذا أشرقت الشمس في عينيك وأعماك بريق السيوف لكن الأم تناه عن ذلك وتقول له دعك من هذا وتعالى هات رأسك وضعها على صدري وتذكر أيام طفولتك ومرحك لقد كنت عطوفاً وكل إنسان كان يحبك أطاعها ابنها ورقد على حجرها وأقفل عينيه قائلاً: أحب المجد فقط وأحبك يا أمي لأنك صنعتيني كما أنا وسألته أمه ألا تحب النساء فقال إنهن كثيرات والإنسان يشعر بالملل من كل شيء وافر الحلاوة وأخيراً وجهت الأم إلى ابنها الجميل الذي لا قلب له ألا تشتهي أن يكون لك أولاد..؟!! فأجابها.. ولماذا..!! حتى يتعرضوا للقتل..!! سوف يقتلهم شخص مثلي وهذا سيسبب لي ألما وسوف أكون عجوزاً ضعيفاً فلا أستطع أن أنتقم لهم، قالت الأم يائسة إنك عقيم ولن تستجيب لندائي وأخذه النعاس على صدر أمه كما يفعل النعاس بالطفل دائماً وبعد أن غطته أمه بمعطفها الأسود غرست في قلبه سكيناً فأصابته رعشة ثم مات على فوره وبعد أن ألقت الأم جثة ابنها عند أقدام الحراس المذهولين قالت وهي تخاطب المدينة: كمواطنة فعلت ما تمليه علي وطنيتي وانتمائي وكأم فإنني سأظل مع ابني لقد فات الأوان ولن ألد ابناً آخر فحياتي بعده لن يعد لها جدوى وأمسكت بالسكين الذي لازال دافئاً بدم ابنها وبيد ثابتة غرست السكين في صدرها وضمهما غطاء واحد..تلك القصة سجلتها لتقرأها سهام حين تكبر.. وتتعلم منها أنه من يخون وطنه ليس له مكان في العالم حتى قلب أمه.. إن الأمومة التي حققتها لي الأقدار فاقت كل شعور ومشاعر مرت على قلبي قبلها..

الله حى .... الثانى جى !

حين ترزق السماء تبسط لمن يشاء.. سنوات طويلة أجتر علقمها وأبكي تفيض روحي حزناً ومشاعري لوعة وقلمي يبكي دماً هو الآخر على حظي العاثر.. سنوات بلا بارقة أمل تلوح في سماء الأمومة كاد الحب يلقي بأحجارة الكريمة من زمرد ومرجان ولآلىء في مياه الترعة.. وزعت أحزاني في جرار البنات والنسوة العائدات من صنبور المياه النقي ليشرب الرجال والأطفال بدلاً من مياه الطلمبات التي تحتوي على مادة تصيب كل من في القرية بدء في كليته أو داء في كبده فوجت الرجال في القرية ذات وجوه سوداء بلون الطمي، وصحة خائرة، وكرش ممتد سألت ما هذا المرض قالوا استسقاء آثار بلهارسيا ومياه عكرة بطعم الموت.. شيء غريب..!! أين الثورة والمهتمين بمياه الشرب..!! أعجبني أحد أعضاء مجلس الشعب ثائراً ولاعناً وقال موجهاً كلامه لوزير الصحة.. لا تبني مستشفيات ولا تهدر ملايين الدولة في الأجهزة الطبية لا تتصور في التلفزيون وأنت تقص شريط افتتاح المستشفيات في القرى حتى لا نرى المرض بادياً على وجه الشباب.. بدلاً من هذا وذاك.. حاول أن تنقي مياه الشرب واجعل كل مواطن يبتعد عن مياه المرض والموت لذلك حرصت نساء القرية على أن تملأ جرارهن من مياه العداد لكن المرض كان قد نام في البطون واستقر الموت حصد أشرف وسمير والحسين وفوزي وجميل وصبري وعلاء شباب مثل الورد عرفتهم عن قرب ولكن المرض حصدهم في عز الشباب فأصبحت النساء أرامل ثكلى بلا رجال وكأن هذا المرض حرباً تبيد الشباب مثل حرب أمريكا في العراق انسلخ من الصغيرة قليلاً لمرض ألم بي فتركتني هي لاهيه مع أصدقائها فهي تسير بمفردها وتذهب معهم إلى الدكان تشتري الشمعدان واللبان وتصبح جيوبها منتفخة وإذا ما حاول أحدهم أن يتسول منها لبانه واحدة صرخت مهددة إياه بأبيها الذي سيعود من السنبلاوين ليعذبهم..كانت تفرح كلما جاء مولود في الدار وتجلس إليه وتحمله على حجرها وتضحك والنساء يقلن لها.. قولي لماما تجيب لك عيل يا سهام وترد سهام في غيظ لا.. ماما مش هاتجيب حد.. أموته لكن يبدو أن هناك شيئاً في الطريق إليها كي لا يزداد دلالها وتتأجج شقاوتها لقد باتت تتحكم وتأمر وتغضب والويل كل الويل لمن يقترب من لعبها.. وتيقنت أن الحمل الثاني أصبح واقعاً فنهضت من رقادي لأهتم بشئون البيت والزوج والصغيرة التي أصبحت عصبية إلى أقصى درجة وكأنها تشعر بأن هناك شريكاً في الطريق إليها وقد استطاعت النسوة في الدار أن يجعلنها تشعر بالغيرة فيقلن لها في تحدٍ.. ماما هتجيب لك ولد يضربك ويأدبك.. لم تكن تدري للكلمات أي معنى سوى أنها تسألني ماما إنت هاتجيبي ولد.. فأقول لها الله أعلم ولد ولا بنت فتقول في عصبية مش عايزه صبيان أنا عايزه بنت ألعب معها كانت أمه نجيبه تشتاق لذكر وكذلك الزوج الذي عاد إليه الأمل مرفرفاً بجناحين من تفاؤل قائلاً في فرحة.. الله حي التاني جي سألته في لحظة دلال.. إنت عايز ولد أليس كذلك.. قال في لهفة.. يا ريت.. لم أحتمل أن ينمو في صدره أملاً سرعان يموت لو جاءت بنت وما أتعس تلك اللحظات على نفسه فالولد هنا في القرية يعني أشياء كثيرة لكن ما باليد حيلة ورغم إعلانات التلفزيون التي تنادي.. البنت زي الولد.. ورغم أن سعاد حسني غنت في مسلسل هو وهي للكاتبة الكبيرة سناء البيسي "هو وهي" إلا أن النظرة لازالت كما هي من ألف عام البنت مطمع والولد حامي القبيلة عموماً لن أتعجل الأيام ولتحمل لي ما تريد إني لا أستطيع أن أوفى الله حقه ومثلي لابد أن تشكر النعمة ولم لا..؟!! وبعد السنوات العجاف تأتيني الأحلام ترفل في أثواب البنات فهل أتمرد عليها..تمر شهور الحمل مسرعة كسرعة البرق فسهام تلتهم الوقت كله بشقاوتها وأسئلتها المحيرة والتي أشعر معها بالملل أحياناً ها هي الولادة تنذرني فانتظر حتى يأتيني المخاض الحقيقي.. الطلق يمزق أوصالي أصبح يعتريني ألم كاد يزهق روحي جنيني يصرخ مستعيناً وأنا معه أستغيث يأتي الطبيب وفي الغيبوبة تحملني ملائكة الأطفال.. لا تتركني إلا حين يشق سمائي قمر آخر هو أجمل من كل أقمار الدنيا.. ونظرت إليها في المهد كانت تبتسم وتمد يديها وتنادي ملائكة الرحمة قمر آخر أسميته "رفيدة" شعر حالك وبياض لولي الملمس واللون وفم مرسوم مثل الوردة.. حزنت أمه نجيبه ونامت في فرشتها وحين نادوها كي ترى ما أنجبته الأبله قالت في حده دعوها تأكلها لقد مللت من هذه اللعبة.. جاءت "وزة" كعادتها تملأ كل أواني البيت زهور وتعلق فيها ستائر في لون الفضة وفوق كراسي الشقة جاءت بمفارش موشومة بالقصب والرقة ونادت كل الأطفال وأعطت كل طفل شيكولاته وهريسة وشمعة وقالت للأطفال غنوا يا أولاد..وسهام جلست بمودة حملت ما سموه "رفيده".. ولأن سهام تعشق أكل الحلوى وضعوا في لفائف الوليدة قروش من فضة وحلوى حملتها سهام وكلما وجدت شيئاً صرخت أختي تعطيني قروشاً يا ماما من أين تجئ بالحلوى..؟!! قلت تحبك يا سهام جاءت تلعب معكي من اليوم ظلي بجوار أختك في الشقة..وسهام كانت لماحة عرفت أن المولودة تضع ملابسها في دولاب معها وتراني كثيراً أرضعها تصمت قهراً أحياناً.. تستسلم أحياناً أخرى ومرات تضربها.. تأمرها بأن تترك ماما تنام فماما تعبت وحين تتعب ماما تثور تزداد حدتها وتقول لسهام.. أنت كبرت دعك من الشقاوة وهيا احملي أختك عني قليلاً فرفيدة تناديك وترد سهام في حدة.. سبيها تعيط كل ولاد الدار بيعيطوا ما حدش بيشلهم إشمعنى هيه مع إنهم صبيان وهي بنت وإيه يعني لما تموت... أمه نجيبه بتقول موتها أحسن..سمعت كلام البنت فانتابتني رعشة وقشعريرة وتحجر اللبن في الصدر المرهق وعادت دمعتي مرة أخرى تنهمر فوق خدي وتساءلت هل كتب علي الحزن الأبدي.. أنجبت وكأني ما أنجبت.. ما هذا المجتمع الملحد..؟!! أي دين يعطي الحق للبشر في أن يكرهوا ما ينجبون.. وإذ المولودة سئلت بأي ذنب قتلت بكيت بحرقة وألم وقلت في نفسي هل ألد مرة ثالثة..؟؟!! لا أدري..؟!!

هل يأتى ربيع جديد

سافاري كان نموذجاً للشاب الفرنسي المثقف الذي شدته مؤلفات "جان جاك روسو" وبالأخص قصته "إلويز الجديدة" ذات الطابع الرومانسي قبل ظهور الرومانسية في الأدب الفرنسي و"برنارد سان بيير" في قصته "بول وفيرجني" التي تبرز قصة "روسو" إغراقاً في الرومانسية، وقد تأثر سافاريي بأسلافه الدرويد وشعراء القبائل الوثنية وكانوا يدينون بعقائد خرافية تحفل بحكايات السحر والأساطير وهو ما جعله يشب حالماً مولعاً بالمطالعة التي لم تلبث أن مهدت له آفاقاً في العالمين المادي والخيالي معاً، فاغترف من مؤلفات الإغريق ومؤلفاتهم ولقد بات سفاري مولعاً بالمصريين وحضارتهم، وقد جاء إلى مصر عام1773م ليستقر بها ثلاث سنوات فجال في ربوع الدلتا مسايراً النيل حتى مصبه في رشيد وفي ذلك يقول "بين احتشاد الأشجار الظليلة تتناثر أحواض الزهور التي يعبق بها الجو بأريجها العطر، رغم لفح الظهيرة فتجعل منها الفردوس الموعود للظامئ والعطشان على حين انزوى في إحدى الخمائل وسط الظلال الندية رجل يقبض بيديه على غليون طويل مفرغ من أغصان الياسمين وتخطر بن هذه الخمائل المخطيات الشركسيات الفاتنات اللاتي وفدن من بلادهن محجبات ثم ما لبثن أن خلعن العذار وتحررن من قيودهن وسرن يتأودون في خطى راقصة سريعة مترنمات بأنغام حانية منشدات أناشيد أسطورية تصف تقاليدهن القديمة ومتعهن في وطنهن الجديد، حيث تخالط سخونة الجو عبق زهور البرتقال وأريج الوردة العطرة لتثير فيهن كوامن الرغبة التي يعجزن عن مقاومة سلطانها.ترى كيف لشاب في مثل سن سافاري تفيض روحه رومانسية أن يقاوم كل هذا الإغراء فأغلب الظن أنه وقع أسير غرام مبرح على ضفاف النيل بالقرب من رشيد، ويمضي سافاري يصف الريف والقرويين أو بمعنى أدق القرويات اللاتي أعجبه منهن جمال تكوين أجسادهن وفطرة سلوكهن.. قامت أعواد البوص على شاطئ النهر كما تكدست الوديان بالمحاصيل وشارفت شجيرات الأرز على الحصاد ومالت لفحات النسيم بأعواد فعل الأمواج بسطح البحر، وشغل الفلاحون بري حقولهم بينما تدور البقرات بالساقيات... ما أبدع هذا السكون في بلاد النيل..!! وتذكرت سافاري كلما اشتقت للذهاب إلى الغيط حاملة رفيدة وفي يدي سهام ورأيت توافد الصبايا من القرى لجمع القطن وقد صنعت كل صبية لها جلباباً به عب كبير تضع فيه القطن إنه لمنظر بديع يوحي بالخير.استطاعت تلك المناظر وهذه البيئة أن تشكل إبداعي بيد من رومانسية وريشة فنان عشقت القرية متأخرة بعد أن شعرت بأن جذوري تنبت فيها تخرج شجراً.. صفصافاً يهفهف على شاطئ العمر الراحل في أدراج النسيان، لكني مع سهام ورفيدة سأبقى تمثالاً مرسوماً لا تنقصه لمسة... أعشق الحياة وأراها بعيني الأطفال تتراقص كالأزهار وترش عطور السحر في الأنحاء فتتساقط كل ربات العشق تتساءل همساً:.. هل عشقت هذه المرة حتى صارت ملكة تحمل بين يديها مفاتيح كنوز الأرض وتقسم بأن من يلمس يدها يصبح سلطاناً يشهر بين جيوش الحمقى هنا من حب وسيفاً من حكمة. هذه الأيام أنام كثيراً أسمع صوت البنتين ينادي وسهام تأنس لرفيدة ورفيدة فنانه بيدها ريشة ترسم رغم أن أناملها على حمل الورق والأقلام لازالت لا تقوى.. تعاندها سهام وتخطف لعبتها تلقيها في الماء فتبتل فتحزن رفيدة وتبكي فعروستها صارت مبلولة وسوف تكح وتموت كما قالت ماما وكلمة ماما صادقة دوماً.. ماما نايمة يا رفيدة.. ماما ترجع كل طعام تأكله ماما مريضة يا رفيدة.. ورفيدة لا تفهم، لكن سهام كانت تشعر بأن هناك سراً يجعل ماما في الغرفة لا تشاهد التلفزيون وسألتها مراراً هل أنت حزينة يا ماما..!! أمه نجيبه قالت أمك تجيب لك بنت كمان حزنت ماما لا تدري سراً للأحزان إلا الخوف القابع في الأحشاء هل تأتيني يا ربي بجنين بالقدرة يخرج ذكراً... الله أعلم قالتها النسوة لكن "فرحة" فلسفة أخرى قالت بنتان ثم الثالث ولداً فرح الزوج المتعب العشمان في الله أن يأتي الثالث ولداً تلك العادة يا سيدة الدار تورثناها أباً..... جداً.........ولداً كرهت الكلمة جداً.. فاتت كل الأيام.. لا أعلم هل كانت شهراً أم دهراً ماذا أفعل لو حملت أيامي وفاضت كالنهر لتلقي بشاطئة بنتاً..غاصت آهاتي بين ضلوعي وقالت فرحة لا تحزن يا عمي والمصحف ولداً.. وتعجل زوجي في عربته يحملني حملاً قبل الموعد وجاء طبيب الأسرة في الغرفة المكتظة بالأطفال في انتظار معجزة كبرى.. فرحة تسعل سعلتها المشهورة.. عايزين نأكل كباب.. يطير الزوج العشمان ليأتي بكباب الحاتي كله.. تلد الأبلة خيبة ثالثة تبكي المرأة تلو المرأة.. يا خبتك الناقعة يا أبلة..شيء اعتدت عليه لم أحزن وحملت الصغرى دائرة.. الوجة دائرة كأنها مرسومة ببرجل وعيون بلون الليل الطاغي فوق الأرض.. سمسمة لا يظهر فيها فم ولا أنف فرحتي بها كانت كبرى لم أعبأ بنظرات الشماتة وقلت ما أجمل صنع الله حين يأتيني وليدة تسخر من كل ملكات جمال الكون وتخرج لهن لسانها وتقول بصراحة أنا أجمل منكن ومنهن ومن كل أميرات الدنيا.

زيزى وبناتها

شيء رائع أن تستيقظ شمسك التي ماتت منذ سنين فتلتهب الأطراف الثلجية.. ما أجمل أن تتحول حدائق روحك اليابسة إلى جزر مخضرة ساحرة لقد كانت حياتي قبل البنات يسودها ظلام دامس أشعر أن البشر يتهامسون علي يقولون عاقر أصابعهم منصوبة في وجهي ينصبون لي المشانق لم أسعد زوجي ولكن حين أتت أول بنت تدلت هالة من الضوء على قلبي فانتفض من رقدته فتجلت عظمة المبدع شعور غامض بأنك تحيا لتغزل ثوباً يلبسه طفل عاري كان هديراً جنائزياً يدق فوق عقلي المرهق أتأمل صورتي فأراها بلا ملامح مرآتي سطحها متعكر بها ألوف التجاعيد الدائرية التي تطفو على وجهي – أنظر إلى صورتي مرات أخرى أشعر بالأسى فإذا بها تتبدد ثم تتمحى.. أسير فانكفأ على وجهي ثمانية أعوام وسور حديدي بيني وبين الحرية نهر عميق بلا زورق أغوص فيه وأنا لا أعلم فنون العوم فأغرق في مجتمع يلفظ امرأة لا تنجب تذهب في طي النسيان يضعوها في مقبرة ذا سقف أزرق تأكلها يتبقى منها عظماً أذابه ديدان الأرض فهل مرة ثانية تنجو..؟!!المرأة في القرية لا تصبح أمَّا إلا بعد إنجاب صبي لازالت كل النسوة تدعو وتقول ربنا يعوض عليك بمولود ذكراً.. لم أعد أعبء ولا أهتم بتلك الهفوات المرة وسعدت وحلمت بأني أتسامى لسماء عالية تحملني إليها حملاً..أمه "نجيبه" لم تنجو من صداع ألم بها لم يفارقها حتى رحلت تحمل بين ضلوع القلب أنشودة حزينة تتجرعها مراً أما أنا بين عشية وضحاها أصبحت أمَّا لثلاث بنات لم أكن أدري هذه المسئولية الكبرى إلا حين بدأن يتشاجرن على الألوان والقصص الملونة والفساتين المزركشة بالفرحة.. ملأ صراخهن الشقة كسرن الأطباق والأكواب وصببن الماء فوق رؤوس المارة.. كانت تجري الواحدة تلو الأخرى ويطالبن بالحلوى وبنقود فضية يذهبن للدكان يأتين لأعمامهم بالدخان..وكان قراري لن أتركهن في الدار كي لا يتعلمن أصول المهنة ويتعرفن علي مكنون الكلمات الحمقى في الفرن وفي البراني ووسط الدار كان قراري ينبع عن تجربة قاسية من تتربى في الدار ستخرج لا تعرف من هذا الكون إلا الأزواج أولاد الأعمام وعليها أن تختار واحد منهم.

 
أنشأ هذا الموقع ويدير تحريره الكاتب الأديب مجدى شلبى